حسين بن حمزة
يحلّ لبنان ضيف شرف على فرنسا، عبر تظاهرة Les Belles Etrangères التي تحتفي بالآداب الأجنبيّة. وقفة عند الرواية اللبنانيّة التي تكاد تكون السجل الأساسي للحرب الأهليّة. وأسئلة عن خلفيات المبادرة التي أشرف عليها الكاتب الجزائري محمد القاسمي

هذا الموسم يحلّ الأدب اللبناني ضيفاً على فرنسا، ضمن تظاهرة Les Belles Etrangères. لكنّ بعض التجارب المشاركة ليست مجهولة تماماً لدى القراء الفرنسيين. ليس فقط لأن بعضهم يكتب بالفرنسية، والبعض الآخر مترجم في السابق إلى لغة موليير، بل بحكم الصلات التي تربط بين لبنان وفرنسا، والتي أدت دوراً حاسماً في رواج تيارات وأساليب ونبرات كتابة محددة في الأدب اللبناني. إن جزءاً لا يُستهان به من هذا الأدب تأثر، ولا يزال، بالمرجع الفرنسي، وخصوصاً في الشعر الذي بُنيت بعض بياناته الحداثية الكبرى بإيعاز مباشر من الشعر الفرنسيبهذا المعنى، ستكون أغلبية الكتّاب اللبنانيين المشاركين في التظاهرة أشبه بمن يذهب إلى العاصمة الثقافية الأجنبية الأقرب إلى تفكيره وخياله الأدبي. وينبغي ألا ننسى هنا أنّ الفرنسية غالباً ما تكون اللغة الأولى التي تُترجم إليها معظم الأعمال اللبنانية.
ولعل التظاهرة ستكون مناسبة لحشد عدد من أهم تجارب الكتابة الروائية اللبنانية في لحظة واحدة ومكان واحد. الروائيون الذين يُقرأون فرادى في الأحوال العادية، سيكون لتجاورهم حضور أكثر كثافة، وأكثر قدرة على تقديم أسئلة السرد اللبناني ونبراته وانعطافاته وتطوراتهالروائيون الستة (الياس خوري، حسن داوود، رشيد الضعيف، علوية صبح، محمد أبي سمرا، إيمان حميدان يونس) تحضر الحرب الأهلية وما أعقبها، مباشرة أو مواربة، في أعمالهم. ففي تلك الفترة بدأت الرواية اللبنانية ولادتها الثانية وازدهرت وشهدت تزايداً واضحاً في عدد الاعضاء المنتسبين الى النادي الأدبي.
والأرجح أنّ هذا ما منح الرواية اللبنانية صفة تتفرد بها: في الوقت الذي تخضع فيه الرواية العربية لتراتبية الأجيال، كان الإنتاج الروائي هنا، يصنّف حتى وقت قريب، في ضوء علاقته بموضوعة الحرب والكيفيات التي كانت توضع فيها الحرب داخل الرواياتكانت الرواية أشبه بوثيقة عن الحرب والوقائع التي فرضتها على سلوك الناس وطرائق عيشهم.
وقد ظهر ذلك بأشكال وأساليب مختلفة في عدد من الأعمال الأساسية التي كُتبت في تلك الفترة. لعل القارئ الفرنسي لم يتجاوز بعد مسألة النظر إلى الرواية اللبنانية (والعربية عموماً)، بوصفها وثيقة سياسية واجتماعية. لكن الرواية اللبنانية نفسها تجاوزت ذلك عبر كيفيات سردية متعددة وشديدة الخصوصية. ولعل تلك التظاهرة فرصة للروائيين اللبنانيين أنفسهم، كي يعيدوا تقديم نتاجهم بطريقة بعيـــدة عـــن الصـــورة التقلــيدية التي يحملــها القارئ الفرنسي فــي ذهنه.
لا يمكننا المراهنة على نتائج فورية وملموسة لهذه التظاهرة، لكنها مناسبة لتفتيت السرد اللبناني الحديث إلى مكوناته الفردية. صحيح أن الكلام يصح عن «رواية لبنانية» ذاتمواصفات وخصائص معينة، لكن نظرة متأنية لا بد أن تظهر أن هذه الرواية ما هي إلا روايات. وإذا كان انتماؤها اللغوي والجغرافي والاجتماعي يوحّدها، فإن الخيارات الأسلوبية المختلفة والمتباعدة لكتّابها تفرّقها أيضاً. والمؤكد أن صورتها، وهي متفرقة، تقدم قراءة أكثر دقة لمشهدها العام وأكثر عدالة لكل تجربة على حدة. فالحرب التي حضرت في «الجبل الصغير» و«الوجوه البيضاء» لإلياس خوري، ليست الحرب نفسها في «بناية ماتيلدو«غناء البطريق» لحسن داوود، وليست تلك التي في «المستبد» و«غفلة التراب» لرشيد الضعيف. الواقع أن الحرب حضرت في طبعات أسلوبية متعددة، وهذا طبيعي في نقل أي حدث إلى نص أدبي. إضافة إلى ذلك، نجد أن الحرب غادرت نصوص هؤلاء الثلاثة الذين يمكن اعتبارهم «الجيل» المؤسس لرواية لبنانية ثانية. حسن داوود الذي أحضر الحرب وكأنه يمحوها ويدفنها في أعماله، ذهب إلى كتابة أخرى، فأنجز «ماكياج خفيف لهذه الليلة» و«لعب حي البياض» متخفّفاً ليس من الحرب وحدها بل من متطلباته الأسلوبية المشددة أيضاً. وهي حال الياس خوري الذي كتب في «باب الشمس» ملحمة فلسطين الكبرى. وعلى منوال هذه التغيّرات، يمكن قراءة الأعمال الأخيرة لرشيد الضعيف «انسي السيارة» و«تصطفل ميريل ستريب»
الحرب التي غابت في أعمال المؤسسين، عادت لتحضر، بطبعات جديدة ومنقحة، في أعمال من جاء بعدهم. بهذه الطريقة يمكن التعامل نقدياً مع روايات مثل: «مريم الحكايا» لعلوية صبح و«سكان الصور» لمحمد أبي سمرا، و«باء مثل بيت مثل بيروت» لإيمان حميدان يونس.
ويأتي الشعر هنا ليمثّل استثناء لافتاً مع عبّاس بيضون وجمانة حدّاد. فالتظاهرة مخصصة في الأصل للرواية، ومن النادر جداً أن تفتح أبوابها للشعر كما يحدث هذا العام. لكن كيف يمكن تجاهل الشعر في الثقافة العربيّة؟ وخصوصاً أن عباس بيضون يستحق أن يُقرأ كخلاصة مكثفة لمجمل ما يحدث داخل المختبر الشعري اللبناني والعربي.