بيار أبي صعب
كيف تم اختيار «الاثني عشر» في التظاهرة الفرنسية؟ ولماذا دخل الفيلم في لعبة الانقسام الأهلي؟

عبارة Les Belles Etrangères يصعب نقلها كما هي إلى العربية. تجمع بين الآداب الأجنبيّة من جهة، و«الحروف الجميلة» التسمية القديمة للأدب في لغة موليير: les Belles Lettres. إنّها، باختصار، عنوان تظاهرة مهمّة تقام كلّ خريف، هدفها الاحتفاء بالآداب الأجنبيّة، وتقديمها بمختلف الأشكال المتاحة إلى قرّاء الفرنسيّة. المبادرة التي تطفئ شموعها العشرين، ينظمها «المركز الوطني للكتاب» تحت راية وزارة الثقافة والاتصالات في بلد شرعة حقوق الانسان. وقد لعبت منذ انطلاقتها العام 1987 دوراً أساسياً في تعريف الفرنسيين (بل الفرنكوفون)، بآداب العالم: من رومانيا الى الأرجنتين، من البرتغال إلى الصين، ومن اليونان والنمسا إلى بولونيا والتشيلي وجنوب افريقيا... والآن جاء دور لبنان (12 ــــ 24 ت2/ نوفمبر 2007)... فاختلطت المعايير، وغابت الصرامة والموضوعيّة!
ما هي الاعتبارات التي روعيت، والمعايير التي اعتُمدت في اختيار الكتّاب الذين سيتولّون، بشكل أو بآخر، «تمثيل» الأدب اللبناني في مختلف أنحاء فرنسا؟ على أي أساس يتم اختيار الروائيّة ياسمينا طرابلسي التي تكتب بالفرنسية وتنشر في باريس، لاعطاء فكرة عن الأدب اللبناني، بدلاً من نجوى بركات احدى ألمع كاتبات جيلها مثلاً؟ طبعاً ليس المقصود التقليل من القيمة الأدبيّة لأعماللطرابلسي، لكن السؤال يتعلّق بالصورة التي يريد مهندس التظاهرة اعطاءها عن الانتاج الأدبي والواقع الثقافياللبناني. لماذا جمانة حدّاد التي يكن لها كاتب هذه السطور كل تقدير، وليس بسام حجار أو عقل العويط أو عيسى مخلوف... أو حتّى وديع سعادة؟ كيف نفضّل شريف مجدلاني وهو أيضاً يكتب وينشر بالفرنسية (أي لا حاجة لتقديمه إلى قراء هذه اللغة)، على ربيع جابر أو جبّور الدويهي، وحتّى على حنان الشيخ وهدى بركات (علماً انّهما مترجَمتان الى الفرنسية)؟ وتاميراس (رياض) فاخوري التي تكتب بالفرنسيّة أيضاً، أليس الأجدر أن يكتشفها القارئ في لبنان والعالم العربي، قبل أن نقدمها للجمهور الفرنسي؟ ألم يكن يستحسن تقديم تجارب عناية جابر أو يوسف بزي أو غيرهما ممن احتل مكانة راسخة على الساحة الشعريّة المحليّة والعربيّة؟
لا ننكر أن تظاهرة «الغريبات الجميلات» تقدّم ست تجارب مميّزة هي جزء أساسي من المشهد الروائي اللبناني والعربي، وشاعراً لعلّه بين الأكبر عربيّاً وعالمياً. لكن بين هؤلاء أسماء مكرّسة، ومترجمة في فرنسا منذ أكثر من عقد... أين المعيار إذاً؟
أشرف على التظاهرة محمد القاسمي، الشاعر والروائي الجزائري بالفرنسيّة، والناشط في فلك المؤسسات الثقافيّة الفرنكوفونيّة الرسميّة منذ سنوات. قد لا يجوز طبعاً تحميله أوزار «الخبيصة» كلّها، فهناك حتماً «دفتر شروط» تقيّد به. لكنّه كتب مقدمة الأنطولوجيا التي تعرّف بـ «الاثني عشر»، وحقق الفيلم الريبورتاجي، وأدار الندوة التي احتضنها «المركز الثقافي الفرنسي»، أوّل من أمس، بحضور معظم المشاركين، لاطلاق التظاهرة من بيروت، مدافعاً عن خيارات «المشروع» وأهدافه... هذا الكاتب الموهوب، المنقطع نسبياً عن الواقع الثقافي الجزائري، يحبّ لبنان، ويعرف مبدعيه. لكن هل يحميه ذلك من الغرق في رماله المتحرّكة، والضياع بين دهاليزه؟...
السؤال يطرح نفسه بإلحاح، بعد مشاهدة الفيلم الذي انتج للمناسبة (إخراج ميشال جورج). «كتابة لبنان إلى الأبد» محاولة لتقديم هؤلاء الكتاب والكاتبات (إضافة إلى الرسامة الشابة زينة أي راشد). يحاور القاسمي كتّابه، ويقودنا في رحلة عبر هذا البلد الجميل، بكنائسه وجوامعه، بحاناته ومطاعمه الليلية وبناته السكسي، بجباله وشواطئه وصولاً الى ميناء بيبلوس. والسؤال الوحيد الذي أبقى عليه بصوته بعد المونتاج، هو ذاك الذي طرحه على عبّاس بيضون: لماذا هناك حريّة في لبنان أكثر من المحيط العربي؟ جواب عبّاس بالفرنسيّة: «نعرف السبب، لكننا نخجل من قوله: لأننا لسنا بلداً اسلامياً». وبمعزل عن النظرة السياحية الى المكان وأهله، ينقسم الفيلم بين كتلتين: كتّاب فرنكوفون يقولون أشياء عامة وساذجة وطوباويّة عن البلد، وكتاب عرب يعتبرون أن الاسلام أصل البلاء. وربّما كان نقدهم مصيباً، أو مشروعاً في كل الحالات، لكننا نجد نفسنا مجدداً أمام الصورة الاختزالية إياها التي تريح المشاهد الغربي، ومعظم أصحاب القرار السياسي في الغرب.
وتأتي اللقطات الجانبيّة، بطريقة استعمالها، وآليات اسقاطها بين المشاهد، لتنحرف بالفيلم عن الموضوعيّة والتوازن: الكليشيهات والشهداء والتظاهرات والرايات، تعطي للمشاهد اليقين: هناك المتحضرون من جهة (أهل الأدب والثقافة و«محبو الحياة»)، و من الأخرى الهمج وقوى الظلامية. لا تبحثوا طبعاً عن أي أثر لعدوان تموز الفظيع في الفيلم، يبدو أن القاسمي لم ينتبه له. إكتفوا بالخاتمة على لسان إلياس خوري: «قتلوا سمير وجبران لأنهم يريدون منعنا من المطالبة بالحريّة والاستقلال... لكننا لن نخرس. سنبقى في المعركة مع أن الأمل ليس كبيراً». لقطة عامة، طويلة وبطيئة على صورة من احدى تظاهرات ساحة «الحريّة». موسيقى. جنريك.