strong>نوال العلي
صوفيٌّ يبحث عن العراق على Google Earth
فنان مسكون بالماضي، مهووس بتحريك الصورة الجامدة. غادر بغداد عام 1995، ليقيم في دفتر الطفولة، وكليشيهات قديمة بالأبيض والأسود. يعرض حالياً في عمّان، وقريباً يوقّع في بيروت كتابه مع أدونيس

اللوحة تتعلق بنفسها، والبطولة المطلقة للون. أمّا الحركة، فلا تتحقق إلّا في النظر إلى تفاصيل دقيقة مهجّنة ومتراكمة ومركبة. كأنّك في مواجهة ثلاث لوحات تصل بينها فكرة، هي في الأصل صورة من دون ضوء يعكس كيانها. يعيد الفنان هنا الاعتبار إلى المرايا، علّ الغائب يتجلّى، والمتخيّل يأخذ في الظهور. إنّه عالم نديم كوفي (1962) كما نكتشفه هذه الأيام في عمّان، حيث يقيم حتى 22 تشرين الثاني (نوفمبر)، معرضه الشخصي الثاني عشر بعنوان «مخطوطة» (غاليري «لاينز»). يستدعي الفنان العراقي المقيم في هولندا، ماضيه وذكرياته في بلاد الرافدين من خلال أدوات وأشياء يومية بسيطة: الصابونة، قطع النقد العراقية، البطاقة البريدية والنافذة والجدران...
ليس في اللوحة مشهد مثالي بخطوط واضحة وصريحة، بل وجود يخرج عن صمته. وجسد لوني تتفجر طاقته في «مخطوطة» بدائية، يعاد فيها الاعتبار إلى صورة ذهنية لا ترمز سوى إلى وجودها. يفتعل الرسام في الفن حالة يتوق إليها بشدة: أن يكون «كيميائياً»، فيجمع فوق سطح واحد «قابلية المخطوطة على التفاهم والحوار». ويبدو أنّه يؤسس بذلك ملجأً جديداً في جسد اللوحة الذي يمنحه لحظة حميمة يتوق إليها.
يقول كوفي الذي كتب أطروحة ماجستير بعنوان «دفء الكتاب»: «وجودي كغريب في هولندا جعلني أنشد لحظة الدفء التي تولّدها المخطوطة، ويخلقها الكتاب الذي يمتلك دفئاً خاصاً». لكنّ علاقته بالكتاب قديمة جداً. تبدأ من دفاتر بحجم راحة اليد، كان يهديه إياها والده الموسيقي ليرسم خطوطه الأولى التي كان يريدها متحركة. كوفي يريد أن يرى حركة الثابت. التقط أكثر من مئة صورة لكرسي كي يثبت أنّه يتحرك. ومن خلال التحريك animation، استطاع أن يرصد حركة طفيفة إنما حقيقية.
هل تحرّكت اللوحة؟ تحدث ضربات الريشة المتكررة دوراناً لونياً يشبه الرقصات الصوفية المجنونة، فيما يأتي اللون بفعل ما، ويتوجّه بإشارة أو يقطع طريقه بتؤدة لينغمس في نظرة المتلقي: مواجهة السحرية، بين صعود ونزول، ووشائج في منطقة ما بعد الممكن. هل أنت متصوّف يا نديم؟ «أحاول أن أطبق الحركة في اللوحة كي يتحقّق «الحدوث»، أبث الروح عبر التكرار للوصول إلى حالة من التجلي». صوفية نديم تبدو تفتيشاً في حميمية الغائب، ومحاولة التواصل معه والتفكير فيه. «اللون علم وليس تذوقاً، اللون له تفاصيل رقمية ومخبرية». بالتأكيد، ثمة سر في لوحة كوفي الذي درس الغرافيك في أكاديمية HKU في أوتريخت (هولندا). ليس في ألوانها المغتربة التي بلا توهج رغم أنّها دافئة ونارية. ألوان زيتية وإكليريك وأحبار مُزجت لتحقيق لون يخصّ كوفي فقط، ويشبه التنفس البطيء أمام أفق مفتوح. وغالباً ما جاءت اللوحة بأكملها لوناً واحداً، حاضراً ومستقلاً بوجوده: «بطاقة بريدية»، «غموض»، «فصول»، «غرفة حمراء»، «أخضر»... لوحات بلمسات خاصة جداً، منجزة على القماش أو على ورق خاص (الأرز). وكذلك هو الصوت بالنسبة إلى كوفي. هو يحاول تحليل أي حالة أو همسة إلى صورة، أن يعطي للصوت هوية فينكشف، ويتحول إلى كتلة أو منحوتة أو صورة، فمنطق كوفي كله «معكوس».
«خلال عشرة أعوام من الاحتراف، كنت ساكناً داخل مشكلة الخط واللون والشكل، أي طقوس الصورة المرسومة. آن الأوان للبوح بذلك. تغيرت كثيراً اليوم في سلوكي الفكري والعقلي. وصار اهتمامي منصبّاً على تشكيل الصورة انطلاقاً من شيء معروف أو مألوف، يمثّل أيقونة ذات معنى، إلى درجة تجعل التعرف إليها بديهياً على سطح اللوحة».
الاعتراف بالتغيير كان من صنيع ثقافتين متناقضتين. في هولندا، اكتشف الفنان عبثية تجربته في أكاديمية الفنون في بغداد، حيث درس الحفر والنحت والطباعة والتصميم. «شعرت بأني خُدعت، كيف كان فاشيستي عسكري يدرّسني الفن؟ كيف تعلّمت ولم أر في حياتي موديلاً عارياً».
بين الغرب والشرق، بين معرفة مجردة ومفتوحة تماماً، وعاطفة مبثوثة وهائمة، يقيم كوفي في دفتر الطفولة، والدفتر المدرسي المملوء بالعبث التشكيلي الأول. مشروع «دفتر» الذي أطلقه أواخر عام 2004، جاء يجمع الصور الفوتوغرافية أياً كان موضوعها وحالها، لتكون ألبوم العائلة العراقية الكبيرة والمشردة. في الدفتر أيضاً، وطن موجود وآخر مفقود يبحث عنه كوفي يوميّاً على Google Earth. يومياً يزور الكوفة حيث عاش خمسة أعوام من طفولته. تلك المدينة منحته إشاراتها ورموزها الدسمة والعميقة حتى نسب نفسه إليها. «من هناك مرجعيتي، من طفولتي في الكوفة، كنت أحدّق إلى مساحات نسيها الكبار، أراقب الخطوط والأشكال على الجدران والبيوت والطبيعة».
عن العراق، يتحدث كوفي بـ«ماضويّة» يحاول أن تبدو متماسكة، ويستدرك: «يااه معقول أرجع أزور الكوفة وبابل؟!». كوفي ليس له حاضر، هو دائماً في الماضي ويعيش الآن في العشرينيات. يذكر صورة فوتوغرافية عُرضت له في لندن هذا العام وأبكت الحضور، تظهر طفلاً يحمل دراجته الهوائية في أحد أزقة الكوفة، وصورة أخرى للمكان نفسه فارغاً: «العراق فارغ».
لا يرسم كوفي الحرب ولا المنفى ولا الموت، لكنّه يرسم ذلك كله. أعماله تتوق إلى تجسيد المفقود أو غير الملموس. يؤكد هذا حين يتحدث عن سعادته بتخطيط المدن، المهنة التي مارسها أحياناً في هولندا حيث يقيم منذ عام 1995. المدينة المرسومة في ذهنه تنتقل من مادة غائبة يمكن الشعور والتفكير فيها فقط، إلى ديمومة تلمس وتحس وترى. إنّه المفتون بالقدرة على التجسيد (الخلق)... كأنه يخلق من فنه كوناً يحتفي بالمفاهيم والتفاصيل التي لا يمكن فقدانها، ولا أحد يمكنه أن يسلبها لأنّها غير متحققة أصلاً. لكنّه وهم الفنان: أن يوجد ما يُفتََََََقد إليه، وما هو على عتبة المحو دائماً.

«مخطوطة» ــــ Lines Gallery ، جبل عمّان، الدوّار الأوّل
هاتف: +962-6-4655084
[email protected]