محمد خير
قبل أيام، دفع موظفو «مايكروسوفت» 280 مليون دولار لشراء حصص من Facebook، مالئ الدنيا وشاغل الناس. موقع التعارف الاجتماعي الأشهر يوفّر خدمات معلوماتية شديدة الخصوصية، ويثير المخاوف حول دور الإنترنت في تقييد الحريات الشخصيّة...

لم تكن معركة المقالات التي تدرس دور مدوّنات الإنترنت في عالم الميديا الحديثة قد هدأت بعد، ولا الخبراء استكملوا أبحاثهم عن تأثير التدوين الإلكتروني في أسواق النشر، حتى التهبت حمّى Facebook وغطّت على ما عداها... من هنا الأهميّة التي يكتسيها إعلان شركة «مايكروسوفت» العالمية عن فوزها بحصة في الموقع الأميركي الأشهر للتعارف الاجتماعي. لقد دفع موظفو بيل غيتس قبل أيام، مبلغ 280 مليون دولار، لقاء 1.6 في المئة فقط من الموقع الذي أسسه طالب أميركي يدعى مارك زوكربيرغ. إضافة إلى حصول «مايكروسوفت» على حقّ الإعلان فيه، خارج الولايات المتحدة الأميركية.
وفازت الشركة العملاقة بالصفقة على حساب شركة Yahoo وأيضاً شركة Google التي حققت العام الماضي صفقة من خلال شراء موقع «يوتيوب». لكن ها هو «يوتيوب»، الأشهر في مجال عرض لقطات الفيديو، يعود نسبياً إلى أحضان «مايكروسوفت» بشكل غير مباشر. ذلك أن استخدام مقاطع الفيديو شائعٌ بشكل كبير في صفحات «فايسبوك»، حيث يعرضها المستخدمون على صفحاتهم تظللها إعلانات «مايكروسوفت».
طبعاً يمكن رؤية الأمر عكسياً، فعرض الفيديو على صفحات «فايسبوك»، يعد اختراقاً من جانب YouTube وبالتالي Google للمساحة التي اقتحمتها «مايكروسوفت»... ومع دخول خدمة الـChat من خلال برنامج «ويندوز لايف ماسنجر» عبر «فايسبوك»، يكاد استبعاد «ياهوو» يصبح تاماً. لقد أقصيت Yahooمن الحلبة التي تحتلّها «غوغل» و«مايكروسوفت».
إلا أن ما سبق لا يلغي حقيقتين أساسيتين: الأولى أنّ ساحة المنافسة (السيطرة؟) هي أميركية تماماً من دون منازع. أما الحقيقة الثانية، فهي أن الأسماء السابقة التي أصبح مستخدمو الإنترنت موزعين بينها، فتتنافس في تطوير وتلبية خدمات إعلامية ومعلوماتية شديدة الشخصنة. إذ تعتمد على ما يسجّله المستخدم من معلومات ـــــ بإرادته أو بغير إرادته ـــــ من خلال تكرار زياراته لصفحات معيّنة. وهو ما جعل كثيرين يشكّون في مهمات استخبارية ما لبعض هذه الشركات، ويتساءلون ـــــ في ظلّ الهوس الأمني الأميركي ـــــ عن مدى التزام هذه الشركات معايير الخصوصية. وتحديداً، إذا طلبت الأجهزة الأمنية الأميركية معلومات عن بعض المستخدمين لمصلحة «الحرب على الإرهاب».
دفع ذلك ببعضهم إلى استدعاء الدعوى القضائية التي رفعتها المنظمة العالمية لحقوق الإنسان ضد شركة «ياهوو»، بسبب معلومات قدمتها الشركة الأميركية إلى السلطات الصينية عن مستخدمي بريد الشركة في الصين. فتسبّبت بسجن المعارض شي تاو لمدة عشر سنوات، عقاباً له على انتقادات للفساد الحكومي وجهّها عبر الإنترنت. والمدهش أن «ياهوو» لم تنف الاتهامات، بل أنكرت فقط مسؤوليتها عن سجن المعارض. وقالت إنها قدمت المعلومات عن المستخدم السجين بدافع «احترامها للقانون الصيني»! و«احترامها لقوانين أي بلد تعمل الشركة فوق أراضيها».
هل يعني هذا أن كل اتفاقات الخصوصية التي يوافق عليها المُستخدم قبل استعمال البريد الإلكتروني، أو قبل الاشتراك في خدمات البحث والتعارف الشخصي لا تساوي شيئاً، ما دامت «قوانين بلاده قد تسمح بسجنه»؟ إلى حدّ كبير يبدو ذلك صحيحاً، ويثير المخاوف حول اتجاه الميديا في أشكالها الجديدة إلى تخصيص وشخصنة مواد البث.
ذلك أن وسيلة الإعلام التي تبثّ لك ما يناسبك من مواد وأخبار ودعايات تراعي اهتماماتك، تعرف عنك الكثير مما قد يؤذيك، لو أن «قوانين بلادك» تسمح بذلك. ومن خلال موقع مثل Facebook، يوفّر المستخدم لمن يريد، قوائم بمعارفه وأصدقائه وعائلته وصور هؤلاء ومعلوماتهم... وهذا هو الحلم الأجمل لأجهزة الأمن في كل مكان.
وعلى رغم ما سبق، ثمة تناسب طردي بين تطور آليات النشر على الإنترنت، وبين نشاطات الجماعات الحقوقية. بل إن تلك الشخصنة التي تدعمها التوجهات الحديثة للميديا، ساعدت على ظهور أصوات أقلّيات سياسة ودينية وعرقية، وأسهمت في فتح النقاش حول مدى شرعية مطالب هذه الأقليات واتجاهاتها السياسية. ودفعت إلى ساحة الجدل السياسي بمستخدمين ربما كانوا سيمضون حياتهم، من دون أن تواتيهم الجرأة أو الاهتمام بالسياسة. بشكل ما، تم تحقيق القاعدة القديمة التي يؤمن بها كوادر التيارات السياسية في البلدان القمعية. وهي القاعدة التي تقول إنّه كلما ازداد الأعضاء النشطاء والمنتمون السياسيون، ازدادت صعوبة إيذاء الكوادر أو التعرف إليهم. يتحقق هذا بشكل ما في وسائل الإنترنت: أعداد المستخدمين التي تتزايد بصورة هائلة كلّ صباح جعل من شبه المستحيل ملاحقتهم جميعاً، والتأكد من شخصياتهم، وخصوصاً أصحاب الأسماء المستعارة. كما أن نفوذ شركات الكمبيوتر والانترنت الكبيرة، يصعّب مسألة حجب مواقعها كل يوم، ويجعل ذلك الحجب قليل الجدوى مع سهولة التنقل من شركة إلى أخرى ومن خادم (Server) إلى آخر ومن موقع إلى غيره... تتنقّل الأفكار والسجالات وتتفاعل لتصنع تغييراً مستمراً وثابتاً في وعي المستخدمين. وهو وعي لا يترتب فقط على استقبال المعلومات، بل يتأثر بالمشاركة في صنعها من خلال الميديا التفاعلية... إنها ميديا تحقق المقولة الدارجة «العالم قرية صغيرة». لكنها توفر لكل سكان القرية، الحقّ في التنقل على طرف المساواة.