strong>عثمان تزغارت
  • بيــتر غريــنواي مع رامــبرانت في «دوريّــة لــيل»


  • «مهرجان البندقيّة» (فينيسيا) أعرق المواعيد السينمائيّة وأقدمها، يطفئ هذا العام شموعه الخمس والسبعين. وقد استقطب بعض كبار الفن السابع من بريان دي بالما إلى وودي آلان، مروراً ببيتر غرينواي و... يوسف شاهين. كما يكرم السينمائي الايطالي برناردو برتولوتشي (66 عاماً)

    سمتان أساسيّتان تميّزان الدورة الرابعة والستين من «مهرجان البندقية السينمائي» (أو «مهرجان فينيسيا») الذي يُحتفل بمرور 75 عاماً على تأسيسه (توقّف خلال الحرب العالمية ثم استأنف بعدها): سطوة مطلقة وغير مسبوقة للسينما الأميركية بثمانية أفلام من أصل 22 في المسابقة الرسمية، وحضور قوي للراهن السياسي من خلال ثلاث تيمات إشكالية: حرب العراق التي يدور حولها فيلما «في وادي الإله» لبول هاغيس وRedacted (مُحرّر) لبريان دي بالما... ثم قضايا التطرف والأصولية الدينية كما نجدها في شريطي «خودا كاي ليي» (ومعناها «بسم الله» بالأُردو) للباكستاني شعيب منصور و«انسحاب» للإسرائيلي عاموس غيتاي (المعروف بنقده الملطّف للسياسة الإسرائيليّة، وطرحه بعض الأسئلة على الضمير اليهودي)... وأخيراً قضايا الفساد المالي والسياسي التي توقفت عندها أربعة أفلام هي «إنه عالم حر» للبريطاني كين لوتش و«مايكل كلايتون» للأميركي توني جيلروي، وIl Dolce E L’amaro (حلو ومرّ) للإيطالي أندريا بوربوراتي و«هي فوضى» للمصري يوسف شاهين. وهنا يسجّل المخرج المصري عودته إلى المسابقة الرسمية في البندقية بعد ربع قرن من مشاركته الأولى بـ «حدوتة مصرية» عام 1982 (راجع البرواز أدناه).
    الفيلمان الأميركيان عن حرب العراق مستوحيان من قصص واقعية عاشها جنود أميركيون. يروي بول هاغيس «في وادي الإله» قصة اختفاء مجند أميركي شاب ومقتله بعد فترة وجيزة من عودته من العراق، ويقوم والده محقّق الشرطة (تومي لي جونز)، بإجراء تحقيق شخصي موازٍ للتحقيق الرسمي، حول خلفيات القضية... ما يقوده سراً إلى العراق ليكتشف هناك بشائع الحرب. أما Redacted لبريان دي بالما الذي يُعتقد أنه الأوفر حظاً في نيل «الأسد الذهبي» هذه السنة، فينطلق من حادثة اغتصاب فتاة عراقية في الرابعة عشرة، تدعى عبير قاسم حمزة، من جانب أميركيّين في صيف 2003، ثم تصفيتها برفقة ثلاثة من أفراد عائلتها للتستر على الجريمة. والجدير بالذكر أن تلك القضية سبّبت أول فضيحة مدوية بعد الاحتلال الأميركي للعراق، ودِينَ الجنود المتورّطون فيها بالسجن مدى الحياة.
    وفيلم دي بالما لا تكمن قوته فقط في خطابه السياسي المعادي للحرب والاحتلال، بل في صنعته المتقنة. إذ صُوّر في شكل يضاهي الأفلام التوثيقية، ما يجعله يبدو ظاهرياً كأنه تحقيق تسجيليّ اعتماداً على وثائق المحاكمة والتحقيقات التلفزيونية والمكتوبة التي أُنجزت عن القضية، فضلاً عن مختلف شهادات الجنود الأميركيين في العراق التي تتناول جرائم وبشائع مشابهة...
    أما عاموس غيتاي، فيعود الى دائرة الضوء يفيلم من إنتاج مشترك فرنسي ـــ إيطالي ـــ ألماني ـــ إسرائيلي، يتناول تيمة التطرف والأصولية. «انسحاب» صُوِّرت أغلب مشاهده قرب أفينيون في جنوب فرنسا، وهو من بطولة أربع نجمات بارزات: جولييت بينوش، جان مورو، باربرا هاندريكس، صونيا أرجنتو، إضافة إلى الممثل الإسرائيلي ليرون ليفو، والممثلة الفلسطينية هيام عبّاس. على خلفية قصة عائلية حزينة، تتمثل في معاناة شاب إسرائيلي وأخته غير الشقيقة، بعد وفاة والدهما خلال الانسحاب الإسرائيلي من غزّة. يكشف غيتاي كيف كان ذلك الانسحاب، الأحادي الجانب، نوعاً من الهروب إلى الأمام، تفادى من خلاله متطرفو «ليكود» و«حماس» الجلوس وجهاً لوجه على طاولة المفاوضات، وكيف استمرت ظروف الاضطهاد والحصار والإهانة ذاتها بعد الانسحاب. ذلك أنّها تُرضي الطرفين في نوع من «تلاقي المصالح الموضوعي». فتلك المعاناة تغذي التطرف «الحمساوي» في صفوف الغزّاويين، وتمنح فرصة لـ«الليكوديين» كي يعرقلوا أي مفاوضات قد تسفر عن قيام دولة فلسطينية...
    التيمة ذاتها نجدها في فيلم «بسم الله» للباكستاني شعيب منصور. وقد كان هذا الفيلم مثار جدل كبير في باكستان إثر فتوى أصدرها ضدّه الملا المتطرف عبد الرشيد غازي (قُتل أثناء مواجهات «المسجد الأحمر» في تموز/يوليو الماضي). ما زاد من الفضول والإقبال على مشاهدته، ليحقّق خلال شهر واحد في الصالات الباكستانية إيرادات قياسية بلغت نصف مليون دولار. يروي الفيلم قصة شقيقين باكستانيين يعشقان الموسيقى، أحدهما يهاجر إلى أميركا ليكمل دراسته، فيما الثاني يبقى في بلاده ويخضع لـ«غسيل دماغ» من دعاة إسلاميين، فيتحوّل إلى متطرف يحرّم العزف، ويُرغم والدته على ارتداء الحجاب. لكنّ الشقيق الآخر الذي هاجر إلى أميركا لا يلبث أن يسلك التحوّل المتطرف ذاته، بعدما يُلقى عليه القبض بالخطأ، إثر اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر)، ويتعرض للتعذيب على أيدي الأجهزة السرية الأميركية. وبذلك يتساءل الفيلم: أيهما أكثر تغذية للتطرف، دعاة العنف الإسلاميون أم ظلم السياسة الأميركية؟
    تيمة الفساد المالي والسياسي، يتناولها يوسف شاهين من خلال شخصية الشرطي الفاسد والعنيف والمتسلط حاتم (الممثل خالد صالح)، بينما يتطرق لها توني جيلروي في فيلمه «مايكل كلايتون» من خلال شخصية محقق فيدرالي سابق (النجم جورج كلوني) متخصّص في محاربة الإجرام المالي، يتحوّل بعد تقاعده إلى محامي أعمال يدافع عن إحدى كبريات شركات الصناعات الغذائية، فيتستّر على تورطها في أعمال غير قانونية تصل إلى حد تصفية عدد من خصومها الذين يسعون إلى إثبات أنّ بعض منتجاتها تحتوي على مكوّنات تسبب السرطان.
    أجواء العنف والتصفيات ذاتها يصوّرها الإيطالي أندريا بوربوراتي، في «حلو ومرّ» الذي يفضح نشاطات المافيا وسطوتها في إيطاليا. أما كين لوتش، صاحب «السعفة الذهبية» في مهرجان «كان» 2006 بفيلمه «الريح التي تهزّ الشعير» وهو معروف بتوجهاته اليساريّة، فيواصل هنا في «إنه عالم حر» مرافعاته ضد بشائع الليبرالية المتوحشة التي لا تتورّع عن سحق الإنسان ودوس كل الأخلاقيات والقيم من أجل مراكمة الأرباح... وفي المجتمعات الرأسمالية المأزومة، يذكرنا لوتش، أن العمال المهاجرين هم كبش المحرقة بالدرجة الأولى!
    فاني أردان، بطلة فيلم L Ora di Punta للإيطالي فينسينزو مارا، صرّحت أنها تعتبر ريناتو كورشيو، مؤسس «الألوية الحمراء» بطلاً، فقامت الدنيا وانصبّت عليها اللعنات. وتصريح الممثلة الفرنسية جاء ليؤكد البعد الراهن لهذه الدورة من «مهرجان البندقية»: إنها دورة سياسية بامتياز. لكن هذا لا يعني إغفال حضور أفلام أخرى غير سياسية تحمل تواقيع سينمائيين بارزين، داخل المسابقة وخارجها أمثال الأميركي وودي ألن (أحلام كاسندرا)، والفرنسي كلود شابرول (الفتاة المشطورة نصفين)، والروسي نيكيتا ميخالكوف (12)، والفرنسي إيريك رومر (حب استريه وسيلادون)، والتايواني لي كانغ شونغ (ساعدني يا إيروس!)، وخصوصاً السينمائي البريطاني الكبير بيتر غرينواي (المسابقة الرسميّة) الذي يعود في فيلمه Nightwatching الى حياة الفنان الهولندي الشهير رامبرانت، عند فقدانه زوجته وأبناءه الثلاثة، ويغوص في سرّ لوحته الشهيرة «دوريّة ليل» (إنتاج بولوني ـــ كندي ـــ هولندي ـــ بريطاني).
    ولعل من أكبر مفاجآت المهرجان فيلم Lust, Caution (الرغبة والحذر) للصيني أنج لي الذي يسجّل هنا عودته إلى البندقية بعد النجاح المدوي الذي حقّقه فيلمه «سر جبل بروكباك» الذي نال «الأسد الذهبي» عام 2005. ثم حصد أربع جوائز أوسكار، وأقسم الرئيس الأميركي جورج بوش في مؤتمر صحافي إنه لن يذهب أبداً لمشاهدته، لكونه يروي قصة حب مثلية في أوساط الـ «كاوبوي» في تكساس! في «الرغبة والحذر»، يروي أنج لي قصة تدور أحداثها في شنغهاي خلال الاحتلال الياباني في أربعبينات القرن الماضي، حيث تخطط مجموعة من المقاومين لتصفية أحد المتعاونين مع الاحتلال الياباني. وتتطوّع مقاوِمة شابة لإغوائه وإطاحته، لكنّها تقع في غرامه، ويدخل الاثنان في علاقة حب سادية يقودنا الفيلم عبرها في رحلة آسرة ومخيفة، في الآن ذاته، لسبر أغوار الطبع البشري بأسراره وتقلباته وأهوائه الغريبة.