عمان ـــ نوال العلي
  • العربي التائه الذي امتلأت جيوبه بالمناشير والحجارة


  • أرسين لوبين أخذه إلى الكتابة، واليوتوبيا الثوريّة شردته بين المنافي. تنقل بين الأحزاب وحركات التحرّر، وطرد من المدن التي لجأ إليها حتى عاد إلى وطنه في تابوت. هذا «المثقّف الغرامشي» تذكّرته بلاده أخيراً، ولمّا يفرغ من «الضحك» و«السؤال»

    يحاول الوطن «مكيجة» بؤسه الثقافي، فيتذكر نبيّهُ الغريب غالب هلسا (1932- 1989) الذي عاد ذات يوم الى منزله الأول في كفن! كان ذلك قبل 18 عاماً... اليوم منحت وزارة الثقافة الأردنية الروائي الراحل «جائزة الدولة التقديرية لعام 2007»، وقررت إعادة إصدار كتبه في طبعات شعبية! أحد أصدقاء الكاتب علّق على هذا التكريم قائلاً: «لو كان غالب بيننا لما قَبِل بهذا الكرنفال». طرد الكاتب من بلده أواسط الخمسينيات، ومنعت رواياته في الأردن حتى الأمس القريب! وهجّ بين مدن التيه والمنافي الكثيرة، ليجد في كل مدينة عربية سكنها، شيئاً في نفسه، وينخرط في المواجهة. إنه مثال العربي التائه، والمناضل القومي ــــــ الأممي الذي يجد وطنه حيث طبقته، وحيث قضيته القوميّة! وها هي الثقافة الرسمية تريد احتواء هذا الرجل الذي لم يكن معنياً بأي من الأنظمة الرسمية العربية، بل إنّه بنى ستاراً حديدياً بينه وبينها. وهو العربي الوحيد الذي انتمى الى أربعة أحزاب شيوعية (الأردنية واللبنانية والعراقية والمصرية)، إضافة إلى انتمائه الى الثورة الفلسطينية في حركة «فتح».
    «رابطة الكتّاب الأردنيين» أطلّت أيضاً في مناسبة فوز هلسا بالجائزة التقديريّة، لتنظم احتفالية عنوانها «مسيرة الثقافة الوطنية». وصلت المسيرة إلى بيت الكاتب الراحل الذي سيتحوّل إلى متحف ومركز ثقافي، بعد استعادة مقتنياته من دمشق. لكن أين كانت الثقافة الوطنية ومسيرتها كل هذه السنوات؟
    كان سفره الأول إلى بيروت لدراسة الصحافة في الجامعة الأميركية عام 1950، وهناك التحق بصفوف الحزب الشيوعي اللبناني، فاعتقل في طرابلس خلال إحدى التظاهرات وجيوبه ملأى بالمناشير والحجارة! واعتقل في بيروت على أثر توزيع منشورات ثورية ضد زيارة المبعوث الأميركي روبسون يومها. في أول فرصة هرب إلى العراق عام 1951، وكانت تطارده دعوى قضائية بسبب نشاطه السياسي. لكنّ السيناريو نفسه تكرّر في بغداد... فعاد هلسا في منتصف الخمسينيات إلى عمّان، ليحكم عليه بالإقامة الجبرية، بعدما قضى فترة في السجن. وذات يوم حزم أمتعته مجدداً ليهرب من جحيم بلاده إلى القاهرة. هكذا عاش هلسا مدموغاً بهموم القضايا السياسية التي آمن بها. كان يعتبر المكان الذي يلجأ إليه جزءاً من الوطن، فينزل مباشرة إلى الميدان تحت الراية المحليّة.... وفي ذهنه الراية الكبرى الجامعة.
    لم يكن هلسا «أدباتياً» على طراز معظم كتّاب هذه الأيام. لقد أخذ الإبداع بجملته سياسياً وفلسفياً وأدبياً، ولم يكن أبداً ليفصل بين السياسي والمثقف والمفكّر: كان مثقفاً «غرامشياً» بامتياز. وكان هؤلاء كلهم، ما لم يكن موجوداً في نسيج ثقافة المكان الأول البكر، حيث قريته ماعين في مادبا، وحيث قضى الليالي الطويلة في مدرسة المطران الداخلية يقرأ أرسين لوبين طفلاً، وروبرت ستيفنسن يافعاً. يقول في كتابه «أدباء علّموني، أدباء عرفتهم»: «كانت الكتابة عاري السرّي... وحين قرأت كافكا في ما بعد، انفجرت عوالم الحلم في داخلي. لم يعلّمني أحد الكتابة، ولم يشجعني أحد على المضي فيها. كنت أقرأ لأكوّن أفكاراً خاطئة لم يُعنَ أحد بتصحيحها... وحين قرأت كافكا، انفجرت عوالم الحلم في داخلي. أعددت نفسي للبحث عن أرسين لوبين لأشاركه في مغامراته. سألني إسكافي القرية الذي كان يعيرني روايات أرسين لوبين إن كان شخصيةً حقيقية. فأقسمت له أنّه حقيقي».
    تناولت كتابات عدة هلسا الروائي، لكنّ قليلة هي الدراسات التي جمعت مقالاته السياسية في مجلات كانت تصدر في مصر ولبنان وبغداد ودمشق، مثل «المصير الديموقراطي» و«التعميم» و«فتح» ثم «فلسطين الثورة». هكذا، ظل هذا الجانب من فكر غالب السياسي غائباً عن أبناء هذا الجيل الذين يشكّل لهم رمزاً أقرب إلى الأسطورة... هو الذي خرج في رحلة غامضة ليسوا قادرين عليها.
    ويمكن تجسيد تحرّر هلسا من السياقات الأدبية والأيديولوجيات السياسية الواحدة في مقدمة كتابه «قراءات في أعمال يوسف الصايغ»، إذ يقول: «كيف يظل الإنسان سجين فكرة واحدة لا يحيد عنها، وخصوصاً أنّ هذه الفكرة جزئية وغير باهرة؟ إنّني أسأل نفسي وأعلم أنّني عاجز عن الإجابة: متى نشأت هذه الفكرة؟ وما الذي يجعل الإنسان يخضع لحتميتها؟». من هذه المعرفة الجدلية المسكونة بنظرة نقديّة باتت عنوان شقائه، كان هلسا من الشيوعيين القلائل الذين تعاملوا بنظرة نقدية مع الموروث الأيديولوجي. بحث في مواقف غارودي آنذاك، وأقام جدلاً مع الأطروحات الأيديولوجية الصارمة في بنى اليسار العربي.
    هذا الشيوعي كان منحازاً في كتابته للفرد والحرية والعدالة، بل إن تفاصيل أعماله المركزية تنطلق من داخل الشخصية وليس من خارجها. وتكون أهمية الأحداث على قدر ما تؤثر في الذات وتغيّرها، فتحطّمها أو تدفعها إلى الجنون أو الانتحار، كما هي الحال في رواية «الضحك» أولى الروايات التي كتبها هلسا في مصر عام 1971. وكان هلسا اعتقل في العام نفسه، فترك في البيت مخطوطة الرواية، فظنّ أنّ رجال المباحث استولوا عليها، لكنه عاد بعد ستّة أشهر ليجد أنّ المخطوطة ما زالت في مكانها وعلّق يومها على ذلك «دي مصر أم العجائب».
    أما رواية «الخمّاسين» التي نشرت في مصر بعدما حذف منها الكثير، وأعيد طبعها في دار «ابن رشد» في بيروت عام 1975، فتناول هلسا في جزئها الأخير المعنون «ما بعد الرواية» العلاقات الإنسانية التي جمعته مع عدد من النساء في الإسكندرية، حين كان هارباً من رياح الخماسين في القاهرة. وفي عام 1976، كتب هلسا جزءاً من رواية «السؤال» في القاهرة، قبل أن يعتقل في عهد السادات بسبب ندوة «المخطّط الأميركيّ في المنطقة العربيّة»... ويوضع على متن أول طائرة متوجّهة إلى بغداد!
    هكذا ظل هلسا، مطروداً من عاصمة عربية إلى أخرى. طرد من العراق بعد كتابة مسوّدة «ثلاثة وجوه لبغداد» عام 1981، ولم يتمكن من أخذ مسودته. فاحتضنته بيروت مرةً أخرى حيث عمل في إذاعة الثورة الفلسطينية، وكان يلقي المحاضرات في «اتحاد كتّاب فلسطين». وما إن أعاد كتابة الرواية حتى اجتاح الجيش الإسرائيلي بيروت عام 1982، فوجد هلسا نفسه طريداً مرة أخرى، لينتقل إلى عدن... ومنها الى أثيوبيا فبرلين، في طريق عودته إلى
    دمشق.
    وعلى رغم غياب هلسا بجسده عن وطنه، لم تفارقه فكرة تدوين المكان الأردني. كتب «سلطانة» (1987) وكانت أقرب إلى السيرة الذاتية، إذ قال: «اعتمدت على الذاكرة في تدوين أحداثها». وتحكي الرواية التغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البلاد في الخمسينيَّات، وتسجِّل أحداث ظهور الحركة الشيوعيَّة. ومن خلال شخصية سلطانة الحقيقية والمعروفة في تلك الفترة، روى هلسا ظروف المنطقة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
    وكانت «الروائيون» آخر أعماله التي أصيب بعدما فرغ منها، بحالة من الاكتئاب الشديد كادت تؤدي به إلى الانتحار، حسبما يقول صديق دربه بسام هلسا. تدور أحداث الرواية المكتوبة عام 1988 قبل عام واحد من وفاته في دمشق، حول التغيرات التي حدثت في الشخصية العربية المثقفة بعدما تجرعت مرارة هزيمة حزيران 1967. وتقترب في أجوائها من رواية «الضحك»، لكنّ هلسا عدّها الجزء الثاني من رواية «السؤال» (1979).
    ترك غالب هلسا أيضاً مجموعتين قصصيتين: «زنوج وبدو وفلاحون» التي تروي أحداث تأسيس «إمارة شرقي الأردن» في عشرينيات القرن الماضي. ومجموعة «وديع والقديسة ميلادة» التي تقدم نماذج عن التخلف والخرافات في البادية والريف.
    يستذكر الناقد نزيه أبو نضال ليلة وفاة هلسا، وهو رفيق دربه منذ أيام القاهرة 1964، لم يفارقه حتى ليلة وفاته في 18 كانون الأول (ديسمبر) 1989 في مستشفى الأسد في دمشق: «كنا ذاهبين إليه باطمئنان، إذْ أخبرنا الطبيب أنّ حالته جيدة... حين بلغنا باب غرفته، كان الوجوم مسيطراً على الجميع وأبلغتنا الممرضة بوفاته قبل ساعات». ويضيف أبو نضال «عاش أواخر أيامه ظروفاً صحية ونفسيّة قاسية. وقد روى كيف شاهد على التلفزيون في إحدى الليالي مذيعاً يتحدث عن تحوّل الشمس الى كتلة باردة بعد خمسة بلايين سنة، فكان أن أصابته حالة اكتئاب جعلته لا يغادر منزله لأشهر، ويستغرق في النوم لمدة 16 ساعة يومياً».