strong> نجوان درويش
«لم نحلم بكل هذا التمثيل العربي المجاني في احتفاليتنا بتوحيد القدس»: هذا هو لسان حال الإسرائيليين بعدما استدرجوا ـــــ من باب الفن ـــــ رموزاً تمثّل دولاً عربية وإسلامية لا تعترف بإسرائيل، ولا تقيم أيّ علاقات معها.
أكثر من مئة دب يمثّل كل منها دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بينها الدول العربية، تُعرض منذ الشهر الماضي في الساحة المقابلة لبلدية الاحتلال في القدس تحت شعار «علينا أن نتعرف أكثر بعضنا على بعضنا الآخر... كي نعيش معاً».
يمكن المرء بين هذه الدببة الراقصة أن يسترجع مقولة شائعة لنهضوي قديم هو محمد عبده: «ما دخلت السياسة في شيء إلا وأفسدته». والسياسة هنا هي البروباغندا الإسرائيلية. أمّا ما أُفسد معناه، فهو مشروع فني عالمي انطلق من برلين عام 2002 تحت اسم «اتحاد الدببة الأصدقاء». القصة بدأت عام 2001 حين بادر ألماني هو كلاوس هرليتز، بالتعاون مع فنان نمساوي، إلى تنفيذ مشروع فنيّ لإنجاز دببة بالحجم الطبيعي، ونشرها في شوارع برلين. وكانت الدببة ملوّنة في ثلاث وضعيات مرحة: الدب الراقص الواقف على قائمتيه الخلفيتين، وراقص الأكروبات الواقف على رأسه، والدب المتخذ وضعية «الصداقة». وكان عنوان المشروع «الدببة الأصدقاء».
في عام 2002، خرج كلاوس هرليتز وزوجته إيفا بمشروعUnited Buddy Bears الذي يمزج بين فكرة الدب كرمز برليني، وفكرة أخرى مستلهمة من مشروع فني شبيه يتعلّق بدعوة فنانين من العالم إلى زوريخ وشيكاغو ونيويورك ليرسموا على مجسّمات أبقاراً تُباع لاحقاً لأهداف خيرية. أمّا الدببة، فستباع في النهاية لمصلحة «اليونيسف» ومشاريع خيرية أخرى بعد انتهاء جولاتها العالمية.
لكنّ «اتحاد الدببة الأصدقاء» التي رسم على مجسّماتها فنانون من معظم دول العالم، فعرضت في أماكن بالغة الرمزية في برلين، أبرزها بوابة براندبورغ التي ترمز اليوم إلى «الوحدة والعزيمة»، وتوحيد جزءَي العاصمة الألمانية بعد سقوط الجدار. ويُلوى عنق الرمز ليتحوّل رمزاً لـ«الانتصار على الشيوعية» و «انتصار الغرب وقيمه» أيضاً! وكانت «بوابة براندبورغ» رمزاً للتقسيم والصراع منذ انفصال برلين الشيوعية عام 1961 حتى سقوط الجدار عام 1989. بعد برلين، بدأت الدببة جولتها العالميّة: من النمسا وهونغ كونغ واسطنبول (2004) إلى طوكيو وسيول (2005)، وصولاً الى القاهرة قبل ثلاثة أشهر حيث عرضت على النيل في حفلة افتتحتها سوزان مبارك. ووصل المعرض إلى القدس الشهر الماضي، حيث يستمر حتى 16 من الشهر الجاري.
في القدس ويا لـ«المصادفات»، عرض الإسرائيليون مشروع «الدببة الأصدقاء»... «في الذكرى الأربعين لتوحيد أورشليم» واختاروا ساحة «البلدية» مكاناً للعرض. وتقع الساحة تقريباً على الخط الذي كان يفصل القدس الشرقية والقدس الغربية أثناء الاحتلال الأول (1948 ــــ 1967). وليس المكان بعيداً عن «بوابة مندلبوم» التي كانت المعبر بين «القدس المقسّمة» حتى عام 1967، عندما اكتمل احتلال المدينة الذي يسمّى في الأدبيات الصهيونية «توحيد أورشليم»! المقصد الإسرائيلي طبعاً هو المماهاة بين توحيد برلين و«توحيد القدس». هكذا تفقد رموز السلام والتسامح والتآخي صدقيتها وتصير في خدمة الفكرة الاستعماريّة...
الفن في فخ العولمة... «صناعة» السلام من منظور الاحتلال... كيف تتحول الفنون، البصرية تحديداً، إلى أدوات سياسية تستغلها إسرائيل لمصلحتها؟... ما مدى كفاءة التمثيل الفني العربي في المشهد الفني العالمي؟... هذه بعض الأسئلة التي يطرحها المعرض الدولي الضخم الذي يستدعي نقداً على أكثر من مستوى، وليس فقط لكونه يعرض في القدس المحتلة بمشاركة دببة تمثل دولاً عربية، متزامناً مع الاحتفالية الإسرائيلية هذه السنة بمرور «أربعين سنة على توحيد القدس الإسرائيلية»!
والغريب أنّنا لم نقرأ أي نقد لعرض المشروع الذي يدعو إلى «التسامح»، في ضيافة احتلال يطبّق نظام الفصل العنصري، وفي ظل نموذج نادر في التاريخ الحديث عن «إرهاب الدولة». لم يصدر أي احتجاج من الدول العربية التي جُرّت دببها للمشاركة، ولا من الفنانين العرب الذين رسموا رموزهم الوطنية، ولا نعرف إذا كانوا يقبلون بعرض دببتهم تحت «شعار توحيد القدس»، في ساحة بلدية الاحتلال حيث ترفرف الأعلام الإسرائيلية !
«توقّعنا مصاعب لكنها لم تحدث» تقول إيفا هرليتز التي نظمت مع زوجها كلاوس المعرض. لا شيء في بروباغندا المعرض يشير إلى أنّ عائلة هرليتز يهودية ألمانية، هاجر قسم منها ضمن الحركة الصهيونية، ومن أشهرهم جورج هرليتز أول رئيس للأرشيف الصهيوني الذي هرّب هذا الأرشيف في الثلاثينات من برلين ونقله إلى فلسطين، وإستير هرليتز السفيرة الإسرائيلية والناشطة وعضو الكنيست المتقاعدة.
هكذا، رحنا نبحث في المعرض عن دببة العرب دباً دباً. دُب الأردن الذي يحمل توقيع Ira Asmanowa، كان أول من استقبلنا عند المدخل، على رأسه كوفية حمراء ويبتسم ببشاشة. ثم توقفنا عند دب فلسطين: كان مُلفّعاً بالكوفية ويبدو خارج اللحظة وهو من تصميم إبراهيم هزيمة الذي لجأ من عكا عام 1948 وهو في الخامسة عشرة. أما دب لبنان الذي صمّمه صلاح صولي (مواليد 1962 مقيم في برلين)، فموشوم بالأرزة. ونعبر بدببة مصر (مينا ميخايل) والعراق (فرات الجميل) وقطر (منيرة القادري) وتونس (عادل مقديش) وسوريا (Sabiha Karden) والكويت (ثريا البقصمي) والسعودية (زمان جاسم). دببة العروبة كلّها تختال في «أورشليم القدس»!
من بعيد، تهب كلمات شاعر عربي قديم تمنّى لكي يطيب العيش «لو أنّ الفتى حجر.. تنبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ»... ولو كنتُ شاعراً سريالياً لتمنّيت لو أنّ الفتى مجرد دبّ يشتغل على البطارية!

موقع المشروع:

www.united-buddy-bears.com

موقع وصول الدببة إلى القدس:
www.ubb.jerusalem.muni.il