strong>حسين بن حمزة
لا يريد فوزي يمين لشعره أن يحقق ما يتطلبه الشعر عادة من شروط. ولا يريد أن يشبه، هو أيضاً، الشعراء الذين يكتبون هذا الشعر المشروط. هذا لا يعني أن يمين يصبح، بمجرد أن يفعل ذلك، شاعراً مختلفاً وذا نبرة يملك براءة اختراعها... ما يحدث هو أن هذا النوع من الشعر مكتوب وفق سجيّة ومزاج خاص.
يجمع فوزي يمين بين السخرية والتلقائية والألم. لعل هذه الخلطة هي السبب في ممارسته الشعرية التي يهمه أن تجيب عن أسئلته ووحشته هو، ولا يكترث إن كان ذلك لائقاً ومهذباً أو مستوفياً طقوساً وشروطاً مسبقة. إنه شعر مكتوب كصدى لحياة شخصية، حكمة صاحبها المعلنة هي: «اليأس فضيلة والأمل رذيلة، وكل صامد منتحر أصلاً». (ص 27).
لم يكن بلا دلالة أن يختار يمين لمجموعته الثانية عنوان «حياة بدون فلتر». لست من محبذي شرح العناوين وإسقاطاتها، إلا أن ثمة اندفاعاً واضحاً من الشاعر في أن يعيش الحياة «بجرعات كبيرة»، وأن يتلقى كل ما فيها «بدون فلتر». ولهذا اختار عبارة مدهشة مثل «توقفوا، أريد أن أنزل» عنواناً لمجموعته الثالثة.
ثمة نبرة غاضبة ويائسة ومفرطة في فرديتها تتواجد في أغلب نصوص مجموعته الجديدة. وهي نبرة تسمح بحضور ما هو شديد الشعرية وما هو عادي وما هو ضد الشعرية أيضاً. في نصوص تمزج بين التلقائية والألم الشخصي، غالباً ما يحضر الشعر مصحوباً بمواده الأولية أو بما هو زائد عن حاجة القصيدة، أو أنّ هذا الشعر يصل إلى القارئ بسرعة تجعل تخلُّصه من زوائده عمليةً صعبة.
لكن مهلاً، لماذا نظن أن هذه صفة سلبية أو أنها عيب فات الشاعر أن يصلحه ويعتني به؟ لعل كل هذا طموح مقصود ومتعمد من الشاعر. إنه لا يريد أن ينقّح نبرته فتبدو أكثر أناقة من الخارج على حساب تدفقها الجواني، وليس له جَلد ولا مزاج على تشذيب صوته الشعري الخشن، ولا يرغب في تنقية جملته مما يجعلها أقل شعرية وتأثيراً في بعض المقاطع. الشاعر يتبنى الغضب بوصفه سمة جوهرية في كتابته. بالنسبة إليه، الأهم هو فضح عبثية الواقع والتنديد بالذات والآخرين معاً.
لا يريد فوزي يمين أن يكتب شعراً مصفّى. هناك الكثير مما يمكن لشعراء آخرين أن يحذفوه من تجاربهم. يمين يفضل العفوية والقول الجارح على حساب ما يتطلبه الشعر من رهافة (قد تكون مصطنعة) في اللغة أو إتقان مبالغ به في ابتكار الاستعارات والصور.
ثمة الكثير من الصور الموفقة والمدهشة في كتابة يمين، لكنّه لا يوحي للقارئ بأن عمله الأساسي يكمن في تصيّد الصور وزحزحة المفردات عن دلالاتها القاموسية. بل إنّه لا يكترث إن كانت استطراداته تؤثر سلباً في كتابته أم لا. بعض أعماله تميل إلى ممارسة شعرية قائمة على سطور كاملة ومسترسلة، ولا يرى مشكلة فيما لو مرت كلمات عامية أو جمل فالتة. ثمة انقياد لقوة الارتجال بجوار الإنصات إلى منطق الشعر. وهو ما يتعارض مع حرصه في أعمال أخرى على الاقتصاد اللغوي ومحاولة كتابة قصيدة مقتضبة ومكتفية بضربة أسلوبية واحدة. لكنّ اللافت في الأمر أنّ الشاعر، في الحالتين، لا يتخلى عن نبرته الضارية والساخرة، كما هي الحال في قصيدته «عودة الحرب»، لنقرأ: «كلما ضحكت وتطايرت ضحكتي وارتطمت بزجاج النوافذ ظن الجيران أن الحرب عادت فقاموا إلى بنادقهم زيّتوها وانتظروا».
لن يُلام القارئ إذا فضّل القصائد القصيرة في الكتاب، فهي تبدو أقرب إلى فهمه للشعر، لكنه قد يفوّت على نفسه التلذذ بمشاكسات الشاعر ومفاجآته التي غالباً ما تكون مدسوسة وغير واضحة المعالم داخل نصوص طويلة ومستسلمة لاسترسال سطورها. هذا ما نجده في أطول نصوص المجموعة، «كلاب العزلة» الذي يكاد يكون تدويناً سردياً كاملاً لقصة من بنات خيال الشاعر، ويمكن لبعضهم أن يُنكر انتماءه الطبيعي إلى الشعر. ورغم ذلك، سيُدهش القارئ من قدرة فوزي يمين على إمتاعه، حتى وهو يظن أنه بات خارج أرض الشعر. هذا ما سيشعر به وهو يقرأ صوراً مثل: «سبقتنا الأيام ونحن نربط شريط حذائنا»، وأيضاً: «أجلس على حرف المقهى وأغطّس رجلي في الطريق».