باريس ــ عثمان تزغارت
صدّق أو لا تصدّق! أميركا زعيمة «العالم الحر» و«مصدّرة الديموقراطية»، تفرض رقابة محكمة على الإعلام... بل تذهب إلى وضع الصحافيين المارقين على «القائمة السوداء». شهادة الإعلاميّة المعروفة كريستينا بورجيسون


منذ فضيحة «واتر غيت» التي أطاحت الرئيس نيكسون بعدما كشفتها «واشنطن بوست»، تحوّلت وسائل الإعلام الأميركية إلى نموذج يُفترض أن يُحتذى عالمياً، من ناحية استقلالية الرأي وحرية التعبير التي أُدرجت حقّاً مطلقاً في التعديل الأول للدستور الأميركي، الأمر الذي جعل وسائل الإعلام «سلطة رابعة» فعلية.
لذا، لا يمكن أن يخطر في البال أنّ أميركا التي ترى نفسها زعيمة «العالم الحر»، وبلد الحريات والديموقراطية، وترفع لواء نشر هذه القيم على نطاق عالمي، تفرض رقابة سرّية محكمة على وسائل إعلامها! وذلك حين يتعلّق الأمر بقضايا محرجة أو حساسة تمسّ أسرار الدولة أو تهدد مؤسسات الحكم أو جماعات الضغط والنفوذ. وهي رقابة لا تكاد تختلف عن أنظمة الرقابة في أي بلد «ديكتاتوري» أو «متخلّف»، سوى في طابعها السري الذي يجعلها غير ظاهرة للعيان، على رغم أنّها بالغة التشدد ولا تتورع عن استعمال أكثر الوسائل خسّة لابتزاز الصحافيين والضغط عليهم. إضافة إلى إرغام «المارقين» منهم على الاستقالة من مناصبهم أو إجبار وسائل الإعلام التي يعملون فيها على فصلهم من وظائفهم، ثم إدراج أسمائهم على «القائمة السوداء» السرية التي تضم الإعلاميين المغضوب عليهم والذين لا تجرؤ أي مؤسسة إعلامية أميركية على التعامل معهم أو تشغليهم. كل ذلك يعيد إلى الأذهان السنوات السوداء، سنوات «المكارثيّة»... وكنا نظن أن بلاد العمّ سام تخلصت منها إلى غير رجعة.
في كتابها «القائمة السوداء»، الصادر أخيراً عن منشورات «أرين» في باريس، تروي الإعلامية الأميركية كريستينا بورجيسون كيف قادتها تجربتها الشخصية مع الرقابة إلى كشف النقاب تدريجاً عن وجود هذه «القائمة السوداء». وكريستينا بورجيسون صحافية تلفزيونية مرموقة، كانت قد اشتهرت بتحقيقاتها المدوّية، ولفتت الأنظار خصوصاً بتحقيق أعدته، قبل عشرين عاماً، ضمن برنامج Frontline على تلفزيون PBS بعنوان Showdown In Haiti، ونالت عنه جائزة إيمي. بعد ذلك، التحقت بشبكة CNN محققة ضمن برنامج NewsStand، ثم انتقلت إلى تلفزيون CBS مديرة لبرنامج CBS Reports. وضمن هذا البرنامج، قدّمت تحقيقاً شهيراً بعنوان Legacy Of Shame، نالت عنه جائزتي Emmy وMurrow، ثم نالت جائزة Emmy ثالثة عن تحقيق لها بعنوان «الثورة الأخيرة» عن سيرة الزعيم الكوبي فيدل كاسترو.
بعد هذه المسيرة الإعلامية الحافلة بالمكافآت المهنية المرموقة، تعرضت فجأة إلى سلسلة من الضغوط والمضايقات التي انتهت بفصلها من عملها، وإدراجها في «القائمة السوداء»، فلم تعد أي وسيلة إعلام أميركية تجرؤ على تشغيلها. تروي كريستينا ما حدث لها قائلة: «يوم 17 تموز (يوليو) 1996، إثر تحطم طائرة TWA في رحلتها ذات الرقم 800 باتجاه باريس، بعد دقائق قليلة من إقلاعها من مطار نيويورك، طلبت مني إدارة CBS تغطية الحادثة. فإذا بذلك التحقيق الذي كنت أتصور أنه سيكون مجرد برنامج روتيني عن حادثة طيران عادية، يثير ضدي زوابع لا تخطر في البال من الضغوط والابتزازات من أجل أن أُغفل معلومات مريبة، اكتشفتها عن وجود منشآت عسكرية صاروخية بالقرب من مكان تحطم الطائرة في خليج نيويورك. في البداية، لم أكن متحمسة للأطروحات القائلة بإن الطائرة أُسقطت بصاروخ أميركي، أُطلق عليها خطأ. لكن حرصي على الدقة والحِرَفية، جعلني أهتمّ بموضوع تلك المنشآت الصاروخية مثل غيره من العلامات والقرائن الأخرى التي حقّقتُ حولها لمعرفة أسباب الحادثة... فوجئتُ بضغوط اتخذت في البداية طابعاً ودياً، ثم سرعان ما تحولت إلى تهديدات عنيفة لدفعي إلى التستر على وجود تلك المنشآت الصاروخية والكفّ عن التحقيق في صلاتها المحتملة بالحادثة. ولأنني لم أتمكن من المضي بالتحقيق إلى الآخر لاكتشاف الحقيقة، لا أستطيع الجزم اليوم هل أُسقطت تلك الطائرة بالفعل بصاروخ أم لا؟ وما أثار ريبتي واستغرابي، أن الضغوط والتهديدات وصلت إلى حدود غير معقولة، إذ تم كسر العلبة الخلفية لسيارتي وسُرقت محتوياتها. كذلك تم السطو على بيتي وسُرق كومبيوتري الشخصي ومجموعة من الوثائق المتعلقة بتحقيقي عن تلك الحادثة. وهو ما ولّد لديّ قناعة قوية بأن في الأمر شيئاً غير عادي، وأن كل تلك الضغوط تؤكد وجود سرّ كبير يُراد التستر عليه. الأمر الذي زادني إصراراً على عدم الرضوخ للابتزاز، والاستمرار في التحقيق الذي بدأته، مهما كان الثمن... وحين لم تفلح تلك الضغوط في إرغامي على التخلي طوعاً عن التحقيق، جرى اللجوء إلى أسلوب آخر تمثّل في ممارسة ضغوط شديدة على إدارة CBS، كي توقف تحقيقي عن الحادثة. وبعدما أصررتُ على الاستمرار، فصلتُ من العمل بتهمة مخالفة تعليمات الإدارة!».
وتضيف بورجيسون بحماسة: «ما حدث مثّل صدمة شديدة بالنسبة إلي، لأنني لم أكن أتصور أن ممارسات كهذه يمكن أن تحدث في دولة مثل أميركا. بدأت أتحرى لمعرفة هل يتعلق الأمر بحالة استثنائية أم هو أمر شائع؟ وقادني ذلك إلى اكتشاف أمر «القائمة السوداء» السرية التي تضم الإعلاميين المغضوب عليهم الذين لا ينبغي أن يستعين أحد بخدماتهم. هكذا تمكنت من إحصاء أربعين حالة لإعلاميين مرموقين في مثل هذا الوضع. لكن كثيرين منهم، ممن استطاعوا، بعد مرور سنوات طويلة على حوادث اصطدامهم بالرقابة التي وضعت حداً لمسارهم المهني، أن يحصلوا مجدداً على وظائف إعلامية أخرى أقل أهمية بكثير من مكانتهم ومؤهلاتهم الفعلية، لكنها تضمن لهم مصدر رزق لا يرغبون في التفريط به. لذا اعتذروا مني، ورفضوا الإدلاء بشهاداتهم بوجه مكشوف. ولعلّ أبرزهم إعلامي مشهور أسهم في تفجير فضيحة شركات التبغ على شبكة تلفزيون ABC، وقد استطاع بعد سنوات طويلة من الحصار أن يحصل على وظيفة في صحيفة محلية صغيرة (نُقلت تلك القضية الشهيرة إلى الشاشة في فيلم Revelations لريدلي سكوت، وبطولة آل باشينو وراسل كرو).
في النهاية، تشير كريستينا بورجيسون إلى أنّها تمكنت من إقناع 15 إعلامياً مرموقاً، «بأن يرووا لي تجاربهم القاسية مع الرقابة ومعاناتهم مع «القائمة السوداء» الرقابية. ووثّقت تلك الشهادات وقدمتها بالتفصيل في هذا الكتاب. وعلى رغم تباين تجارب هؤلاء الإعلاميين وتنوع قصصهم مع الرقابة، تثبت جميعها وجود «مساحة ظل» لا يجوز الاقتراب منها من وسائل الإعلام، تتعلق بأسرار «العالم العسكري» وشركات السلاح ومصالح جماعات النفوذ الكبرى الاقتصادية منها والسياسية...