حسين بن حمزة
في مجموعته الثانية «هل جرحت يدك؟ هل جرحت خدّك؟» (دار النهضة)، لا يوحي فادي طفيلي وهو يبدأ قصيدته أنه يبدأ، فعلاً، بإنجاز قصيدة. الفارق ضئيل طبعاً بين مستهل أي كتابة ومستهل قصيدة. إذ لا يكون كل شيء واضحاً منذ المفتتح أو السطر الأول، لكن في الشعر يأخذ هذا الفارق معنى جوهرياً وحاسماً. ليست هناك وصفات شعرية توضح كيفية كتابة قصيدة وتميزها عن كتابة أي نص آخر، إلا أن شيئاً ما يظل يصاحب القارئ وهو يواصل قراءة نصوص المجموعة. لعل ذلك عائد إلى النثرية المفرطة التي لا يبالي الشاعر إن كانت تصنع لكتابته مساحة أوسع مما تتطلبه القصيدة أو لا.
ثمة رغبة لدى فادي طفيلي في كتابة تشبه ما يفكر به وما يعيشه أو يتخيله. الباقي، بحسب هذه الرغبة، ما هو إلا تقنيات وأساليب وحِيَل لجعل ما يُكتب أكثر إبهاراً أو أكثر كثافة وإيجازاً. الشعر يتحقق بالكثافة بالطبع، لكن نصوص فادي طفيلي تعِدُ القارئ بمذاقات مختلفة قد يستسيغها ويُعجب بها إن تخلى عن فكرته المسبقة عن القصيدة، أو فكّر، على الأقل، أنّ الشعر ممكن خارج البنية الصارمة للقصيدة.
ننطلق من هذه الملاحظات لنقول إن هناك حرصاً من الشاعر على الإصغاء إلى نفسه ومواكبة نياته والتورط في حياة وأفكار وعزلات شخصية. وهذا ما يفسر استثماره لثقافة لا تزال مستجدة على ما يُكتب من شعر في السنوات الأخيرة. إنها ثقافة محصَّلة من تذوق الفنون ما بعد الحديثة. في وسع القارئ أن يتلمّس ظلال فيديو وعمارة وتجهيز وأنماط سلوك وطُرُق عيش في عدد من نصوص المجموعة. البنية العامة لهذه النصوص ليست مصنوعة من اللغة والقاموس بقدر ما هي متأتية من تجاورها واحتكاكها بحياة ذات حداثة شرسة. لا يحتاج القارئ إلى جهد كبير كي تصل إليه خلاصات هذه الأفكار: «الجنائز لا تأتي في هذا الوقت من الفجر / لكنّ صوت التلاوة المتصاعد كان يحرك ستائر النايلون الثقيلة / والبناية النابتة كجذع مكعب وميت في الحقل / كانت ترتجف». هذا المقطع مكتوب بكاميرا، لا بمخيلة لغوية. يمكننا أن نقيس على ذلك مقاطع وصوراً وعبارات أخرى منجزة بمنطق أنتي ــــ لغوي، فنقرأ عن مقبرة للسيارات، وعن «موسيقى تتسلل من علبة الليل تحت الأرض وتصعد جدران الطبقات السبع»، وعن «الموتى الذين ماتوا هناك على الطريق بأوقات مختلفة وانتظروا بعضهم حتى يموتوا جميعاً ليمشوا خلف بعضهم / كما فعلت البنايات عندما ماتت ومشت خلف بعضها / وكانت أشجار فعلت ذلك أيضاً عندما ماتت /....».
لعل هذه الكتابة تتنزه بعيداً عما نألفه من شعر، لكن يصعب علينا أن نتفادى عدواها.