البندقية ــ سعيد ولد خليفة
  • السياسة نجمة المهرجان... من شنغهاي إلى بغداد


  • أسدل الستار على الدورة الرابعة والستين من «مهرجان البندقيّة» التي توّجت، للمرّة الثانية، المخرج الصيني أنج لي، وجاءت ببعض المفاجآت (دي بالما، ميخالكوف) والخيبات (بيتر غرينواي). وكان لسينما العرب نصيب غير مباشر من التكريم مع جائزتي التونسي عبد اللطيف قشيش. أما «هي فوضى» فيلم يوسف شاهين مع خالد يوسف، فقد أثار اهتمام النقّاد، لكنّه عاد إلى القاهرة بخفّي حنين...

    رجع أنج لي هذا العام إلى البندقية، بعد «الأسد الذهبي» الذي ناله قبل عامين عن فيلمه «سر جبل بروكباك» حائز الأوسكارات الأربعة أيضاً. وها هو المخرج الصيني يحصد اليوم أسداً ذهبياً ثانياً في الدورة الرابعة والستين من «مهرجان البندقية السينمائي» (فينيسيا) الذي اختتم أول من أمس، بفضل شريطه الجديد «رغبة، حذر» Lust, Caution. الشريط الذي كان يتنافس على الجائزة الكبرى مع 22 فيلماً في المسابقة الرسمية، يروي قصة حب نارية في شنغهاي الأربعينيات بين مناضلة ماوية شابة وضابط صيني متعاون مع الاحتلال الياباني.
    إلا أنّ الفيلم الذي يغوص في دهاليز الذات البشرية ويذكّر بـ«هيروشيما، يا حبي» للفرنسي ألان رينيه (عن رواية شهيرة لمارغريت دوراس)، يُستبعد أن يبقى ماثلاً في ذاكرة عشاق الفن السابع لسنين طويلة. فعلى رغم جرأته وجمالياته الأسلوبية الأكيدة، لا يرقى العمل إلى مستوى روائع سينمائية تناولت الموضوع الإشكالي ذاته، أيّ الحب الآثم والملتبس المليء بمشاعر متناقضة من الجاذبية والنفور. على مدى 136 دقيقة، قاد «رغبة، حذر» جمهور المهرجان إلى مناطق مجهولة ومفاجئة وسط غابة من العواطف المتشابكة والغامضة التي تتحكم باللاوعي البشري والمشاهد الجنسيّة الطويلة. لكنّ الإشكالية التي ستواجه الشريط لدى عرضه أمام الجمهور الواسع ستكون: ما الذي سيبقى منه قابلاً للعرض في القاعات، ولا سيما في دول ومجتمعات طهرانية مثل الولايات المتحدة والدول الآسيوية؟ تُرى هل سيكون «الأسد الذهبي» بمثابة «تأمين على الحياة» يمكن أن يتيح للفيلم أن يفلت من هذه الرقابة الأخلاقية؟
    يمكن القول إنّ الأسد الذهبي الذي مُنح لأنج لي لم يكن عائداً إلى قوة فيلمه، بقدر ما كان نوعاً من الحل البديل حيال النتائج المخيّبة التي تمخض عنها العديد من الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية وعلى رأسها «دورية ليل» Nightwatching للبريطاني بيتر غرينواي. هذا العمل المستوحى من لوحة رامبرنت التشكيلية الشهيرة التي تحمل الاسم ذاته، اتسم بالكثير من الشكلانية والافتعال، ولم يولّد لدى جمهور المهرجان سوى الملل
    والخيبة.
    أما بريان دي بالما الذي حصل على «الأسد الفضي» بفيلمه Redacted («منقّح» من قبل الرقابة)، فاستطاع أن يذهب أبعد من مجرّد توليد التعاطف الإنساني لدى مشاهديه.
    الفيلم الذي يروي قصة اغتصاب فتاة عراقية على يد جنود أميركيين، أثار الإعجاب بصنعته الفنّية المحكمة قبل أي اعتبار آخر.
    دي بالما المعروف بشغفه اللامحدود بالاشتغال على الإشكاليات الفنّية المتعلقة بالتمثيل البصري للعواطف الإنسانية التي تتنازع الضمير الأخلاقي حيال مآسي الحرب وآلامها، استطاع هنا أن يستعمل المادة الإعلامية الخام لملف اغتصاب فتاة عراقية من جنود أميركيين، مقدماً مرافعةً فنيةً وسياسيةً قويّة تجعل من الشاشة مرآةً قاسيةً تعكس للجمهور الأميركي الوجه القذر للحرب التي تخوضها بلاده في العراق. وبذلك، يدشّن دي بالما موجةً جديدةً من سينما الحرب الأميركية التي يُتوقّع أن تتوالى آلامها المستوحاة من حرب العراق على غرار ما شهدته من أعمال اقتُبست من حرب فيتنام.
    وقد احتضنت هذه الدورة من مهرجان البندقية فيلماً آخر عن حرب العراق هو «في وادي الإله» لبول هاغيس الذي يوقّع هنا أول أفلامه كمخرج، بعدما اشتهر كسيناريست في أفلام عدة بينها «حبيبة بمليون دولار» (إخراج كلينت إيستوود).
    أسلوب المرافعة السياسية والأخلاقية ذاتها نجده في أفلام أخرى، منها «هي فوضى» ليوسف شاهين (راجع البرواز)، ومنها أيضاً فيلم «12» للروسي نيكيتا ميخالكوف الذي يشكّل ثاني اقتباس سينمائي لمسرحية ريجينالد روسي الشهيرة «12 رجلاً غاضباً» التي كان سيدني لاميت اقتبس عنها فيلماً يحمل العنوان ذاته، وقد حصد جائزة الدبّ الذهبي في مهرجان برلين السينمائي عام 1957.
    ميخالكوف الذي حاز جائزة خاصة عن مجموع أعماله تكريماً لمسيرته السينمائية، تقمّص في فيلمه «12» الشخصية المركزية التي كان هنري فوندا تقمّصها قبل نصف قرن في فيلم لاميت.
    والمعروف أنّ المسرحية الكلاسيكية التي اقتُبس عنها الفيلم، تروي مداولات 12 رجلاً اختيروا كأعضاء في «لجنة شعبية» قضائية تتولّى البتّ في قضية شخص متّهم بالقتل. وفضلاً عن الإشكالية الأخلاقية الرئيسية التي تناولها النص المسرحي الأصلي، فإنّ نيكيتا ميخالكوف حمّل النص خلفيات سياسية راهنة، بطريقة جعلت الشخص المتّهم بالقتل شيشانياً طعن صهره الضابط الروسي بسكّين. وبذلك تحوّلت حرب الشيشان خلفية سياسية للفيلم.
    استطاع ميخالكوف أن يبرهن هنا على موهبته الفذة، وقدراته الأسلوبية القوية التي أتاحت له تصوير عمل تدور أحداثه في حيّز مكاني مغلق وضيق على مدى ساعتين وثلاثين دقيقة من دون أن يشعر الجمهور بالملل لحظةً واحدةً.
    لكنّه في المقابل جعل الإبهار التقني والبصري يطغى، في أحيان كثيرة، على المضمون السياسي والرسالة الفنية للشريط. حتى أنّ المشاهد يشعر أنّ الأنا الفنّية المنتفخة لهذا المخرج الروسي،الكبير بلا شك، ألقت بكل ثقلها على الشاشة، ليطغى حضورها حتى على شخوص الفيلم أنفسهم...
    وبفوز أنج لي بالأسد الذهبي وبريان دي بالما بالأسد الفضي، يمكن القول إنّ السياسة كانت الرابح الأكبر في المهرجان العريق، وخصوصاً إذا أضفنا أنّ شريط «البذرة والبغل» للمخرج الفرنسي التونسي عبد اللطيف قشيش نال جائزتين، هما: جائزة لجنة التحكيم الخاصة وجائزة أفضل تمثيل (راجع مقالة أخرى أسفل هذه الصفحة). وهو يتناول كفاح الجيل الأول من المهاجرين المغاربة العرب في فرنسا!
    وقد منحت لجنة التحكيم جائزتها الخاصة مناصفة بين قشيش والأميركي تود هينس، عن شريطه «لست هناك» الذي يتناول التاريخ الأميركي خلال أربعين عاماً من خلال شخصية المغني بوب ديلن.