كثر من محبي سينما يوسف شاهين وممن خذلتهم الأعمال التي قدّمها خلال العشرية الأخيرة، سيجدون ضالّتهم في «هي فوضى» الذي قدّم عرضه الأول في مهرجان البندقية. المعلم الإسكندراني الكبير تصدّى في أعماله الأخيرة للعديد من القضايا الراهنة والساخنة بجرأة وصفاء رؤيا، ما جعل المرافعة الفكرية تطغى وتغلب على الجانب الحسي والجمالي في تلك الأعمال. وها هو يتدارك ذلك في الشريط الجديد الذي يحمل أيضاً توقيع تلميذه خالد يوسف كمخرج مشارك، وتوقيع السينمائي الجزائري رشيد بوشارب كمستشار فني وكمنتج.عاد شاهين بشريطه هذا إلى أسلوب البورتريه الإنساني الذي اشتهر به في بداياته (حدّوتة مصرية). ورغم الطابع الإشكالي لمواضيع الفساد والعنف البوليسي التي تناولها الفيلم، إلا أن شاهين لم يلجأ إلى الأسلوب الخطابي الذي اتسمت به أفلام فترته الأخيرة منذ «المصيرالشرطي حاتم هو الشخصية المركزية في «هي فوضى»: رجل عنيف وفاسد ومتسلط يقوم بتعذيب الطلبة والمساجين خلال ساعات عمله في قسم الشرطة. وحين يغادر العمل، سرعان ما يتحوّل إلى شخصية أبوية وعطوف تجاه أبناء الحي الشعبي الذي ينتمي إليه ويقطن فيه. وعلى المنوال ذاته، كل شخصيات هذا الفيلم رمادية ومركّبة، تذكّر بشخصيات السينما الشاهينية في بداياتها ذات النفس الواقعي. فالأمور هنا ـــــ كما هي غالباً في الحياة الفعلية ـــــ متشابكة وشائكة، حيث لا شر مطلق ولا خير مطلق.
وبذلك نأى الفيلم عن الطابع الكاريكاتوري الفاقع الذي كان سيقع فيه حتماً لو تصدى لقضايا العنف والفساد والتسلط من موقع المرافعة الخطابية، ما جعل هذا العمل أفضل ما قدّمه شاهين منذ ثلاثيته الإسكندرانية في الثمانينيات («اسكندرية... ليه»، «اسكندرية مان وكمان»، «اسكندرية_ نيويورك»).
من همجية القصف الإسرائيلي على لبنان إبان عدوان تموز، خرج فيليب عرقتنجي بقصة إنسانية مؤثرة وجاذبة. فيلمه «تحت القصف» الذي عُرض ضمن إحدى تظاهرات المهرجان الموازية («أيام البندقية»)، يروي عودة زينة (ندى بو فرحات) من دبي إلى بلدها لبنان، بحثاً عن ابنها الصغير الذي أرسلته قبل نشوب الحرب عند خالته في جنوب لبنان. تصل زينة إلى بيروت، وتبحث عن تاكسي توصلها إلى الجنوب، فلا تجد أحداً يقبل بخوض هذه المغامرة. فالوجهة الوحيدة التي يريد سائق التاكسي سلوكها هي دمشق. وفي النهاية يتطوع طوني (الممثل جورج خباز) لنقلها إلى الجنوب، وسط صور الدمار والخراب والقصف. عبر هذه الرحلة المطولة والمحفوفة بالمخاطر، يقدّم الشريط لوحة مشهدية مؤثرة للحرب لا تعنى بالمرافعة لحساب طرف ضد آخر من الفرقاء اللبنانيين، بقدر ما ترتكز إلى تصوير آلام الأبرياء العزل في هذه الحرب الإسرائيلية الظالمة...