strong>سعيد ولد خليفة
في عام 2000، نال السينمائي التونسي المقيم في فرنسا عبد اللطيف قشيش، جائزة «الأسد الذهبي» الخاص بالفيلم الأول خلال «مهرجان البندقية السينمائي» عن باكورته «خطأ فولتير». وفي عام 2003، أنجز شريطه الثاني «المراوغة» بميزانية ضئيلة جداً، لم تتعدَّ نصف مليون يورو.
وإذا بذلك الفيلم يُحدث المفاجأة ويحصد أربع جوائز «سيزار» مكرّساً بذلك قشيش كأحد أبرز وجوه السينما العربية، أو سينما أبناء المهاجرين في فرنسا. ما دفع بالمنتج الفرنسي البارز كلود بيري إلى المراهنة على هذا السينمائي المميّز الذي بدأ مسيرته الفنية في منتصف الثمانينيات كممثل في فيلم «شاي بالنعناع» للجزائري عبد الكريم بهلول.
وقّع بيري عقداً ضخماً مع قشيش لإنجاز فيلمين ومنحه ميزانية بلغت 6 ملايين يورو لإنجاز أول فيلم. وكانت النتيجة هيLa graine et le mulet، الذي حاز جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية.
يواصل قشيش في هذا العمل أسلوبه «المراوغ» في التلاعب على المشاهد بمقاربات ورؤى تخالف ما ينتظره أو يتوقّعه. وذلك بدءاً بعنوان الفيلم الذي يمكن ترجمته حرفياً بـ «البذرة والبغل». لكن مَن يشاهد الفيلم يكتشف في النهاية أن المقصود غير ذلك تماماً فـ«البذرة» هي حبيبات الكسكسي و«البغل» هو نوع رخيص من السمك الشعبي بلهجة مارسيليا حيث تدور أحداث الفيلم.
وطبق «الكسكسي بالسمك» على الطريقة التونسية الشهيرة، هو الطبق الرئيسي الذي يحلم بطل الفيلم العجوز سليمان، بأن يفتتح مطعماً متخصّصاً لتقديمه إلى سكّان مارسيليا، وذلك على متن باخرة قديمة يقوم بإصلاحها ويسترجعها من ورشة صيانة البواخر التي قضى ثلاثين سنة عاملاً فيها. قبل أن يُفصل من العمل، ويجد نفسه عاطلاً يعيش وحيداً في غرفة رخيصة في فندق شعبي، بعيداً عن أبنائه وزوجته التي طلّقها...
بهذا العمل، يكمل قشيش ثلاثيته عن الجاليات العربية المهاجرة في فرنسا.
ويقول: «بعد «خطأ فولتير» و«المراوغة»، أردتُ أن أقدّم هنا عملاً سينمائياً عن الجيل القديم من العمال المهاجرين الذين قدموا إلى فرنسا في الستينيات، وهو جيل الآباء الذين التحقوا بالمهجر، وقضوا حياتهم كلها في الكدح من أجل تنشئة أبنائهم من شبان عرب فرنسا اليوم..».
أراد قشيش أن يقدّم هنا تحية عرفان رمزية إلى ذلك الجيل من العمال المهاجرين الذي ينتمي إليه والده. وقد أدّى الوالد دوراً في إسداء النصيحة لابنه المخرج عن التجربة التي عاشها وأقرانه في الستينيات. وحين تعرض الممثل الذي كان يُفترض أن يؤدي دور الشخصية الرئيسية في الفيلم لمشاكل صحية (الفنان التونسي الراحل أحمد عدواني)، شرع عبد اللطيف قشيش في البحث عن ممثل بديل. وإذا بوالده يقترح عليه أن يستعين بحبيب بوفارس. وهذا الأخير ليس نجماً سينمائياً، بل هو عامل بسيط اشتغل على مدى ربع قرن إلى جانب والد قشيش في وُرش البناء في مارسيليا، وأصبح مع مرور الوقت رفيق دربه. أغرت الفكرة قشيش، على غرابتها، وقرّر أن يجرّب.. فكانت المفاجأة أن بوفارس أبدع في تقمّص شخصية العجوز سليمان!
الشيء ذاته يسري على حفصية حرزي التي أدّت في الفيلم دور ابنة العجوز سليمان والتي لم يسبق لها أن مثّلت قبلاً. وها هي تنال «جائزة ماستروياني» في مهرجان البندقية، وهي في السابعة عشرة. ما يذكّر بمسار سارة فورستييه التي عرفت النجومية دفعةً واحدةً بعد أول ظهور لها في فيلم «المراوغة» لقشيش، إذ نالت «سيزار» أفضل ممثلة ناشئة وأصبحت اليوم من أبرز الوجوه السينمائية الجديدة في فرنسا...