القاهرة ــ محمد شعير
بعد ترشيح فاروق حسني لرئاسة منظمة الأونيسكو، مراجعة لسياسة وزير الثقافة المصري الذي يتربّع على عرش إمبراطوريّته منذ عشرين عاماً. من فضائح الآثار إلى حريق بني سويف، سيرة موجزة لهذا اللاعب الماهر الذي أحرق ديوان أبو نواس وأعاد مثقفي مصر إلى «الحظيرة»

رشّح فاروق حسني رسمياً لرئاسة «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (الأونيسكو). يبقى إقناع المغرب بسحب مرشّحته عزيزة بناني، حتى لا تتشتّت أصوات العرب، فيذهب المنصب إلى أميركا اللاتينيّة التي تتأرجح رئاسة المنظمة الدولية ابتداء من 2009 بينها وبين مجموعة الدول العربية. هل يغادر فاروق حسني وزارة الثقافة المصريّة أخيراً؟ ما سرّ هذا الرجل الذي بقي طوال عشرين عاماً الحاكم المطلق للوزارة نفسها، وزارة هي في مصر أشبه بإمبراطوريّة؟ كيف استطاع أن يصبح أقدم وزير ثقافة في العالم؟ وكيف تجاوز كل المعارك التي فرضت عليه، أو فرضها هو على الآخرين؟
إنّه «محمية سياسية»، كتب محمد حسنين هيكل في مقالة شهيرة خلال أزمة نشر رواية حيدر حيدر الشهيرة «وليمة لأعشاب البحر»... بينما رأى الروائي صنع الله إبراهيم أنّه وزير بارع في «اختيار الأحذية لتتناسب مع ما ترتديه السيدة الأولى من ملابس»، وهذا هو سر بقائه. قد يكون في كل ما قيل عن «الوزير ــــ الفنان» (فاروق حسني فنان تشكيلي أساساً) شيء من الحقيقة... لكن هل كان هذا كافياً ليجعل فاروق حسني وزيراً عشرين عاماً، يخرج من معركة ليخوض أخرى، وكل أزمة من الأزمات التي واجهها كانت كافية لتطيح وزارة كاملة: بين مسرحيّين يحترقون وآثار تنهار وأخرى تضيع، وكتب تصادر... في ظل غياب رسمي تام. بل إن الوزير حسني بدا ماهراً في ألعاب المزايدة وفنون الهروب الى الأمام، إذ أعلن يوماً قرار إحراق 3 آلاف نسخة من ديوان أبو نواس لإرضاء جماعة الإخوان! المقرّبون له تساقطوا واحداً تلو الآخر في قضايا فساد شهيرة، آخرها ما جرى مع رجله القوي لشؤون الآثار أيمن عبد المنعم، وقبله مديرة مكتبه خديجة لملوم، وقبلهما مستشاره الإعلامي محمد فودة. وفي كل مرة كان فاروق حسني يعلن أنّ فسادهم يجري بعيداً عن مكاتب الوزارة وبالتالي ليس مسؤولاً عنه!
فاروق حسني، المولود عام 1938 في الإسكندرية والحاصل على إجازة من قسم الديكور في جامعتها، ترك مطلع السبعينيات، منصبه كمدير لأحد قصور الثقافة في الإسكندرية، وسافر إلى باريس ليصبح الملحق الثقافي في السفارة المصرية. لكن نشاطاته تنوعت، بين كتابة التقارير عن الطلاب المصريّين في باريس ــــ كما كشف القانوني الشهير الدكتور يحيى الجمل في مذكراته التي أثارت جدلاً عنيفاً ــــ وبين «لعب الطاولة» مع عاطف صدقي الذي أصبح بعد سنوات قليلة رئيساً لوزراء مصر. روى صدقي هذه الوقائع قبل رحيله: «وضعت لائحة من خمسة أسماء للرئيس مبارك، أولهم أحمد هيكل وزير الثقافة السابق ومعه أربعة من الجامعيين، آخرهم كان فاروق حسني. لكن اختيار الرئيس مبارك وقع عليه».
هكذا عُيّن فاروق حسني وزيراًَ للثقافة عام 1987، استقبلته مقالة قاسية للكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي الذي استهجن تسليم تلك المسؤولية إلى شخص لا علاقة بالثقافة والمثقفين! لكنّ فاروق حسني استطاع احتواء الموضوع... وكانت فاتحة سلسلة طويلة من المعارك والفضائح والحملات المعادية، ولعل أشهرها تلك الخاصة بالآثار المصرية، حيث كان أبرز مهاجميه نعمات أحمد فؤاد وجمال الغيطاني. كما واجه الوزير رؤساء هيئات الآثار، مثل الدكتور أحمد قدري وعبد الحليم نور الدينز لقد تعامل مع الآثار باعتبارها «البقرة الحلوب». وعمل على تسليعها، وتحويل عدد من أجمل الآثار الإسلامية إلى فنادق مثل «باب العزب»... وكانت الخلافات هائلة على ترميم الآثار التي أجري معظمها بطرق بدائية، على يد شركات مقاولات لا بإشراف اختصاصيين. حتى قرّرت الأونيسكو التي بات مرشّحاً لرئاستها، أن تخرج عدداً كبيراً من الآثار المصرية من حمايته. وجاء حريق «المسافر خانة» الذي يُعدّ أحد أجمل المعالم الأثرية الإسلامية، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
لكن فاروق حسني تعامل مع الأزمات باعتباره رجلاً سياسياً أكثر منه وزيراً للثقافة. لنأخذ مثلاً أزمة «وليمة لأعشاب البحر» التي أثارت الإسلاميين والمحافظين في مصر، وعلى رأسهم حزب العمل الذي كان يسبّب صداعاً دائماً للحكومة. لقد أدّت معالجة حسني لهذه الأزمة الى تجميد الحزب، ووقف إصدار جريدة «الشعب» الخاصة به. أما «قضيّة الروايات الثلاث» («قبل وبعد» لتوفيق عبد الرحمن، «أحلام محرّمة» لمحمود حامد،«أبناء الخطأ الرومانسي» لياسر شعبان: ثلاثة أعمال عدّت «جريئة»، صدرت عن إحدى هيئات الوزارة)، فواجهها بأسلوب مناقض تماماً. إذ قام بفصل الموظفين المسؤولين عن عملية النشر، متبنياً هذه المرة خطاب الأخلاق والدين! هذه المهارة السياسية أنقذته من أزمات عدة كان يستغلها لمصلحته، بينها قضية الحجاب التي أثارت ضجة فظيعة في مصر، وحريق قصر ثقافة بني سويف الذي قضى فيه 46 شخصاً من محترفي المسرح وهواته (2005). خرج من الكارثة منتصراً ، بعدما ألقى المسؤولية على مصطفى علوي رئيس هيئة قصور الثقافة...
كثيراً ما تفاخر فاروق حسني بأنّه نجح طوال السنوات التي قضاها في السلطة في إبقاء مثقفي مصر في «الحظيرة». جملته الشهيرة قلّبت كثيرين عليه. إلا أنّه رأى لاحقاً أنّ «الجملة» كانت مجرد زلة لسان لم يقصدها... لكنّ تحليل كل تصريحاته يكشف أنّ التعبير لم يكن زلة لسان، بل حقيقة يحرص على استعادتها بصيغ مختلفة، لعلّ بين أكثرها بلاغة، ما صرح به منذ وقت قريب: «هناك 700 مثقف داخل لجان المجلس الأعلى للثقافة، فمن إذاً خارج الوزارة؟». هذا أيضاً سر آخر من أسرار معالي الوزير، وقدرته على البقاء.