محمد خير
منذ اللحظة الأولى لثورة تموز (يوليو) 52، أدرك ضباط عبد الناصر الأحرار أنّه إن كان البوليس «سيف» الثورة، فـ«الذهب» يكمن في الثقافة. الضباط الآتون من أصقاع إيديولوجية متفرقة، حسبوا دائماً حساب الأفكار، وقرروا أن الطريق السياسية والاجتماعية التي اختاروها لمصر ما بعد يوليو، تستلزم أن تُشق بموازاتها طريقٌ ذهنية تشرح «إنجازات» الثورة. لهذا، أسّسوا وزارة «الثقافة والإرشاد القومي» واختاروا لها فتحي رضوان، الأديب والمترجم الذي كان سجيناً في معتقلات الملكية. هكذا، عيّنوه وزيراً، فشغل المنصب لسنوات أدرك خلالها أنّ الدولة تريد من وزارة الثقافة السيطرة على الثقافة بدلاً من تنميتها، ما أدى إلى نشوب خلافات أخرجت رضوان من الوزارة. حرص الحكم بعدها على اختيار رجال يعتبرون أنفسهم مندوبين للدولة لدى الشعب، لا مندوبين للشعب لدى الدولة. هكذا تفادى رجال يوليو خطأ الملك فاروق الذي ترك الأفكار المناهضة له تترعرع في الحدائق الخلفية لقصوره. فأنشأت دولة ما بعد يوليو قصوراً للثقافة (أكثر من 400) تنتشر في قرى مصر، وتقيم الأنشطة الثقافية بكلفة مادية زهيدة، لا تتناسب مع الملايين التي تتكلفها مهرجانات المسرح والرقص والشعر والرواية. مع الوقت، أصيبت قصور الثقافة تلك بما أصاب المجتمع من الفوضى والإهمال... وما هو أخطر: الردة الثقافية. أصبح عادياً أن تدار بعض المراكز الثقافية من موظفين يكرهون الثقافة ويحرمّون الفن! لكنّ ذلك لم يهز شعرة في مفرق دولة تفضل إفساد الثقافة على التخلي عنها.
لكن مثقفي العاصمة ومفكّري المركز ونجوم النخبة، ظلوا بعيدين عن العالم البيروقراطي لقصور الثقافة، فيما تعاقب عدد منهم على رأس الوزارة التي ألغيت أحياناً ودمجت في وزارات أخرى. فوزارة الإرشاد القومي مثلاً تحوّلت لاحقاً إلى وزارة الإعلام، ووزير الثقافة كان أحياناً «وزير دولة لشؤون الثقافة» وهي درجة إدارية أقل. وبينما تولّى المنصب أكثر من مرة مثقف بارز، مثل ثروت عكاشة الذي كان غارقاً في مشروعاته الموسوعية التي أثرت الثقافة العربية، لكنّها لم تتواءم مع دوره الإداري المفترض. أما يوسف السباعي الذي تولى المنصب لسنوات، فكان يطلب الاعتراف به كروائي تارةً وكوزير تارة أخرى، لكنّه بدا في كل الحالات ضابطاً يرمز إلى ثورة يوليو ونظرتها للثقافة، أكثر من أي شيء آخر.
ومرّت في مكتب الوزير شخصيات أخرى لم تترك أثراً حقيقياً... الدكتور أحمد هيكل ومنصور حسن، فيما بدأ عبد الحميد رضوان العمل مع اليابانيين على بناء دار الأوبرا المصرية الجديدة في الثمانينيات. افتتحت الأوبرا في عهد فاروق حسني الذي تولى الوزارة عام 1987، مدشّناً عهداً جديداً في سياسة الدولة الثقافيّة.
كانت وزارة الثقافة مجرد «معرض للكتاب»، فبدأ حسني عملاً جدياً كان طبيعياً أن يثير الانتقادات. لكنّ الأخطر أنه كان فاهماً للدور الحقيقي الذي تريده الدولة من وزارة الثقافة، فتوسع في بذل «ذهب» الدولة. المهرجانات والمسابقات والإصدارات، لا تعني فقط ينابيع جديدة تصب في نهر الثقافة، بل مزيداً من اللجان والهيئات وبالتالي المكافآت، إضافة إلى مضاعفة قيمة الجوائز الموجودة أصلاً، وابتكار مسابقات تحمل اسم رئيس الجمهورية وفي بلد شهد لسنوات تضييقاً على تأسيس وسائل الميديا الخاصة، لم يكن المثقّف يستطيع أن يعيش بكرامة إذا لفظته الدولة، ما دفع عديدين الى الاغتراب في بلاد النفط، أو الاندماج في المؤسسة الثقافية الرسمية تحت دعاوى أشهرها «إحداث التغيير من الداخل»، «معاونة القطاعات التنويرية داخل الدولة في حربها ضد التيارات المتطرفة»هكذا استطاعت الثقافة الرسمية في عهد فاروق حسني أن «تحتوي» على عدد من أبرز المثقفين الذين تولوا مناصب قيادية وبذلوا جهداً رآه الجميع إيجابياً وخصوصاً في مشروعات الترجمة ورعاية الإبداع الشبابي. لكن بعضهم رأى أنّ المثقفين المصريين دفعوا ثمناً فادحاً لقاء ذلك «الاختراق» المزعوم، وأنه لم يعد للثقافة المصرية كيان متماسك في الموقف السياسي بعيداً عن «حظيرة» فاروق حسني.