strong> وائل عبد الفتاح
فاروق حسني صانع معجزات. عابر حواجز وأنفاق. هذه هي صورته بعد 20 سنة. إنّ مَن يراه في بدايتها، يخال أنّه لن يكمل شهراً في مكتبه المطلّ على نيل الزمالك. لكنّه استمر. وهذه «معجزته» الكبرى ربما.
أوّل خصومه هو المسرحي والروائي عبد الرحمن الشرقاوي الذي قاد أوّل اعتراض على الوزير القادم من المجهول. والمثقفون اعتادوا على أن يكون وزير الثقافة «وسيطاً» بين الرئيس والمثقفين. عبد الناصر كان يختار وسيطه من جنرالات أغوتهم الفنون. والسادات لم يعنِه الأمر كثيراً، فكانت اختياراته متباينة، لكنّ خطها العام سار باتجاه رجال المال.
فاروق حسني مختلف. فنان تشكيلي لكنّه معروف في أوساط موظفي وزارة الثقافة. مواهبه وعلاقاته قفزت به إلى المكاتب الدبلوماسية في باريس وروما، حيث كانت أرضية الانطلاق إلى مقعد الوزارة.
الحكايات هنا كثيرة عن رحلة الانتقال من مدير المركز الثقافي المصري في روما إلى وزارة الثقافة. أطرفها أنّه كان عضواً في شلة رئيس الحكومة يومها. وأخطرها يروي دوره السرّي في قضية «أكيلي لاورو»، السفينة التي اختطفها أفراد من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحررتها وحدات مصرية. لكنّ أميركا قررت اختطاف منفذي العمليّة وهم على طائرة مرسلة من رئيس الجمهورية. يُقال إن فاروق حسني لعب دوراً لم يُعلن عنه حتى الآن، كان وراء صعوده السياسي إلى موقع استطاع معه تحويل مجرى العلاقة بين المثقف والسلطة.
التحوّل لم يكن من علاقة إيجابية إلى سلبية، لكنه انتقال من خطوط النار إلى عمليّات الاصطياد في غابة مفتوحة... وهذا ما جعل فاروق حسني مناسباً لعصر مبارك. نظام لم يتعامل بصدام مباشر مع المعارضين، لكنه خنق المجال الطبيعي لحركتهم. ديكتاتورية ناعمة، ورمال متحركة يغرق فيها ببطء كل مَن تعامل مع مؤسسات الثقافة الرسمية بنوع من العداء. فاروق حسني اتصل بالشرقاوي بعد مقالته الهجومية، واضعاً اللبنات الأولى لسياسة احتواء الخصوم. كانت أول طريق الاصطياد البطيء... وبالتدريج، أصبحت الثقافة دائرة مباني فخمة، يديرها موظّفون أنيقون لمصلحة شخص غامض لا يعرفونه. ما يشكل تجسيداً للحالة الكافكاويّة بامتياز!
لذا كان موت عشرات المثقفين في حريق قصر ثقافة بني سويف قبل عامين، أثناء مشاهدة مسرحية، تلخيصاً لعصر كامل، تسمّيه شرائح متحركة من المثقفين باسم فاروق حسني. وفي هذه التسمية جزء من الحقيقة: ما حدث فى بني سويف يهزّ الثقة في «مشروع» فاروق حسني الذي تغنّى به طوال 18 سنة كان فيها وزيراً للثقافة. إذ كان يفخر بأنّه أقام بنايات ثقافية. أما المحرقة، فكانت بسبب خلل فى صيانة المباني! ما يكشف عما وراء خرافة عصر البنايات الثقافية العملاقة. البنايات هشّة، والواجهات برّاقة، لكن لا شيء خلفها. والوزراة لا تهتم بالبشر: لا موظفين تدرّبهم بكفاءة على إدارة المواقع الثقافية، ولا احترام في التعامل مع الفنانين والنقّاد الذين ليسوا في النهاية سوى «كومبارس» لنجوم الثقافة في القاهرة. وأخيراً، لا احترام للجمهور وحاجته إلى ثقافة نوعية، تختلف عن السلع التي تغصّ بها السوق.
هذه هي الحقيقة العارية خلف الحريق. لكنّ هناك جزءاً آخر وأكبر من الحقيقة، يتعلق بكفاءة أجهزة الدولة في إدارة الأزمات والكوارث. كل أجهزة الدولة تهتم فقط بالمركز: الحاكم والعاصمة، والناس السوبر الذين لهم ضهر يحميهم وسلطة تمنحهم كل الحقوق. وهذا سرّ ثورة الغضب التي استخدمت لغةً جديدةً في التمرد على أسلوب الحكومة القديم لعلاج الأزمات: التعزية وتوزيع إعانات توحي دائماً بأنّها حسنات لا حقوق مكتسبة. ثم يُغلق الملف ولا شيء يتغير.
هكذا تصرّف فاروق حسني: بالأسلوب القديم نفسه. وعندما واجهته عواصف الغضب، لم يجد غير الاتهامات القديمة: «قلة مندسّة» تستخدم السياسة لضرب النظام الحاكم. لم يفهم أنّها أجيال جديدة تمارس حياتها السياسية بالفعل، ليس على طريقة الأحزاب القديمة، بل عبر تأكيد الحقوق، ومحاسبة المسؤول، والمطالبة بالحق الضائع.
بعض عشاق الإثارة يحبّون رؤية فاروق حسني محبوساً في خانة الـ«يك». يحبس فاروق نفسه كثيراً في تلك الخانة الضيّقة، ويدخلها بنصف وعي، وبرغبة كاملة في الدفاع عن النفس. أي أنّ القصة تبدأ عادة من خطر خارجي يهدده شخصياً. هنا ينفعل ويخرج من الصورة الوديعة والمبتسمة التي اجتهد في رسمها لنفسه. يتحول الخروج عن الصورة إلى «استعراض» و«فرجة» لا يمكن مقاومتها، لأنّ فاروق حسني يقترب في هذه الحال من المزاج العصبي لممثل يبحث عن مخرج ينظّم له حركاته... فلا يجد مخرجاً، ويضطر للصعود على الخشبة ليردد كلمات غير مترابطة. لكنه بخبرة واحتراف، يظل يعيد تلك الكلمات حتى يظن أعتى المتفرجين أنّها «نص محكم».
أتحدث هنا عن موهبة فاروق حسني، لا في التمثيل، بل في استخدام الممثل النائم داخله ليخرج من المأزق، وتحديداً في اللحظة التي يبدو كأنه وقع في «شبكة صياد». يتكلم بيديه وحركات رأسه، وتجحظ عيناه، وتتحول الكلمات المنتظمة إلى ما يشبه استغاثات غاضبة موجهة إلى منقذ كبير. هذا هو الممثل، وموهبة الوزير أنه يضعه في الموقع المناسب، من وجهة نظره، على خشبة الأحداث. غير مهم هنا الملابس التي يرتديها الممثل، ولا الماكياج ولا حتى النص... المهم الخروج من خانة الـ«يك»!