خليل صويلح
مديرية الإنتاج في التلفزيون السوري هي البؤرة التي صنعت مجد الدراما في بلد دريد لحّام، وأطلقتها في الفضاء العربي. لكنّها اليوم تعيش وسط دوّامة من الفوضى والضياع، بين الهدر المالي وغياب المهنية... من يوقف النزف؟ من يحمي المسلسلات السوريّة من براثن المنتج الخليجي؟

يشبّه بعضهم واقع الإنتاج الدرامي في القطاع العام السوري، بما أصاب شركة «الكرنك» للنقل: كلاهما أُحيل على التقاعد المبكر، لتحلّ مكانه «بولمانات» سياحية، خاصة ومكيّفة، لنقل الركاب... والمشاهدين. وحال مديرية الإنتاج في التلفزيون الرسمي، تحتاج إلى عملية «قلب مفتوح». وذلك في ظلّ فوضى معلنة، وموت كامل للضمير المهني، وأموال تُصرف بالملايين على نصوص «نص كم» تحت شعار: «بدنا نعيش»، حسب ما وصفته صحيفة «تشرين» الرسمية، في تحقيق ساخن تناول آليات الإنتاج والعراقيل الشخصية التي تواجه صنّاع الدراما. ما جعل كتّاب النصوص يهربون إلى شركات الإنتاج الخاصة. أما إنتاج الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون فقد تراجع شكلاً ومعنى. ووصلت المساومات بين أصحاب النصوص، وبعض موظفي مديرية الإنتاج إلى ما يشبه «نقطة جمارك إجبارية»! الميزانية الضخمة التي تُصرف سنوياً على الإنتاج الدرامي (4 ملايين دولار)، لم تفرز منذ سنوات أعمالاً تضاهي في مستواها، ما ينتجه القطاع الخاص. كما أن الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون لم تتمكن من تسويق ما تنتجه إلى المحطات العربية، وتكتفي بعرض بعض إنتاجاتها على الشاشة السورية فقط. وغالباً ما تحصل على جوائز ترضية في مهرجان الإذاعة والتلفزيون في القاهرة، فيما يُخزّن بعض الأعمال في المستودعات بسبب عدم صلاحيتها للعرض، بعد أن تشاهدها لجان غير تلك التي أجازتها للتصوير. وهناك أعمال تم صرف مستحقاتها منذ سنوات، ثم طويت في الأدراج لأسباب مجهولة.
جاء في التقرير الذي أصدرته اللجنة الخاصة بتقويم الأعمال الدرامية، بين عامي (2000-2004) التي ترأسها المخرج محمد ملص، أنّ المشكلة الأساسية بالنسبة إلى 54 عملاً أنتجها التلفزيون، تكمن في ضعف النصوص. وذلك سواء لجهة الأفكار أو لجهة المعالجة الدرامية والرؤية الفنية و«كأن كل الأحداث ليس لها مسرح إلا موائد الطعام والأسرّة أو المنتجعات، في دراما كلامية، تنتهي غالباً نهايات سعيدة في قضايا ومشاغل مستهلكة ومكرورة، أبعد ما تكون عن مشكلات المجتمع السوري». وتساءلت اللجنة: «هل السبب يكمن في الرقابة أم في موهبة الكاتب، وتالياً كيف تم إقرار مثل هذه الدراما الهزيلة؟ وكيف تمكّن مخرجوها من التعامل مع هذه النصوص؟». ودعت اللجنة المذكورة بإلحاح إلى «إيجاد آلية أكثر تفتّحاً ونزاهة في قرار اعتماد النصوص». ولاحظت اللجنة غياب الأعمال النوعية ذات الطابع الإنتاجي الضخم، على رغم أن الهيئة تمتلك الكوادر والمعدات الفنية المتطورة. فيما ارتفعت الكلفة الإنتاجية لهذه الأعمال بما يفوق ضعف كلفتها في القطاع الخاص. وأفرد التقرير جدولاً خاصاً في تصنيف الأعمال إلى حقول «جيد ووسط وضعيف» وقد تفوقت الأعمال الضعيفة على ما عداها.
وحسب تقارير لجان الرقابة في مديرية الإنتاج التلفزيوني في تفسير سبب تملّك النصوص الهزيلة: «حسم الخلاف مع الكاتب» أو «إعانة الكاتب»، وكأن المديرية جمعية خيرية لأصحاب المواهب الضعيفة...
منذ أشهر، فجّر السيناريست قمر الزمان علوش فضيحة أخرى. كانت مديرية الإنتاج التلفزيوني قد كلفته كتابة مسلسل عن الثورة العربية الكبرى ودور «لورنس العرب» في المؤامرة على العرب. وبعدما أنجز النص، وافقت لجنة الرقابة على إنتاجه بعد إجراء بعض التعديلات الثانوية، وفجأة، توقف إنتاج العمل ودخل نفق متاهات أخرى. يقول علوش مفسّراً: «يتعلّق السبب الأساسي برفضه دفع جزء من أجره إلى مدير شؤون الإنتاج (أُحيل على التقاعد).
هذا ليس كل شيء، فالمدير العام لمؤسسة إعلامية سابق، كتب مسلسلاً رديئاً، وبعد تصويره، رفضت لجنة المشاهدة عرضه بسبب عدم صلاحيته. علماً بأن كلفته الإنتاجية وصلت إلى 20 مليون ليرة سورية (400 ألف دولار). أضف إلى ذلك، أنّ مدير شؤون الإنتاج الحالي هو ضابط متقاعد، يهوى الكتابة الدرامية والتمثيل، ولأن أحد المخرجين رفض منحه دوراً في مسلسل «قمر أيلول» (كان قيد التصوير)، أوقف العمل بذرائع عدة. تفاعلت قضية «قمر أيلول» في أروقة التلفزيون ووصلت إلى الصحافة. إذ اتهم مخرج العمل علي شاهين، مدير شؤون الإنتاج بأنه يقوم بتصفية حسابات شخصية. أما محمود عبد الكريم، مؤلف العمل، فقد اضطر إلى سحب نصه، كي لا يدخل في مهاترات ومساومات لا تليق به، واكتفى بالقول: «يعتقد مدير شؤون الإنتاج أن المديرية ملك شخصي له، وهذا جزء من آلية الفساد في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون». أما عماد ياسين، مدير شؤون الإنتاج، فأوضح أن «القوانين التي تتحكّم في عمل مؤسسة الأعلاف هي نفسها التي تتحكّم في عمل مديرية الإنتاج التلفزيوني». ولعلّ في هذه البلاغة تكمن الإجابة. أليس ضرورياً أن نتذكّر اليوم بعض الأعمال التي أنتجها التلفزيون السوري ولا تزال في الذاكرة مثل «الجرح القديم» و«أسعد الورّاق» و«حكايا الليل» وكلّها من زمن الأبيض والأسود؟