حسين بن حمزة
في «الركض وراء الذئاب» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) يمضي بنا علي بدر إلى أديس أبابا، بحثاً عن شيوعيين عراقيين ضاعوا في شعاب الثورة. ويخيّل إلى القارئ أن صاحب «بابا سارتر» كتب روايته الجديدة التي يخيّم عليها طيف العراق، دفعة واحدة، بسبب إيقاعها واستطراداتها

رواية علي بدر السابعة، تدور أحداثها في أديس أبابا. البطل/ الراوي مثقّف عراقي منفي متزوج من أميركية، لديه ولدان، ويعمل في وكالة إعلامية في نيويورك. بعد إطاحة صدام حسين واحتلال العراق، ترسله الوكالة في مهمة إلى إثيوبيا لكتابة تقرير موثّق بالمعلومات والصور عن مجموعة من الشيوعيين العراقيين ممن التحقوا بالجيش الأممي الذي أسّسه هناك العقيد منغستو. يحصر الراوي هدفه في البحث عن ثلاثة من هؤلاء: أحمد سعيد، وميسون عبد الله، والصحافي جبر سالم. الثورة الأممية انتهت، ويُفترض أن الثلاثة يعيشون حياةً عادية كثوار متقاعدين ومنسيين.
في أديس أبابا، يتعرّف الراوي إلى ثائرَيْن من سكان البلد، هما لاليت وآدم. يسألهما عن كيفية العثور على العراقيين الثلاثة. في غضون ذلك، يقيم علاقة جنسية مع لاليت، وتنتقل للإقامة معه في الغرفة التي ينزل بها في الفندق. ولأسباب غير مفهومة، يبدو آدم ولاليت كأنهما يؤجّلان لقاءه بالعراقيين الذين جاء يبحث عنهم. ثم يعرف الراوي أن الصحافي جبر سالم هو الوحيد الذي لا يزال يقيم في أديس أبابا، بينما غادرها أحمد سعيد وميسون عبد الله. اللقاء المرتقب بين الراوي وجبر سالم يتحول إلى حفلة ميلودرامية، يلقي خلالها الثاني مونولوغاً هستيرياً منفرداً يشتم فيه كل شيء: «لقد خدعوني. لم أعرف أن أفريقيا كلها زبالة، الثورة هراء... الثورة ماخور مظلم دخلنا فيه ولم نعرف كيف نخرج منه. وإن هؤلاء الذين تسميهم ثواراً لم يكونوا غير قوّادين وعاهرات... كنت أحمق حين جئت إلى أديس
أبابا».
يستعيد جبر سالم سيرته منذ خروجه من العراق، مروراً بمحطات عدة بينهــــــــا بيروت التي يتعرف فيها إلى سوسينا، الصحافية الإثيوبيـــــــة التي تعمل معه في وكالة الأنباء نفسها. ثم يعرف القارئ أنها هي التي «خدعته وأغرته بـــــــــالذهاب إلى أديس أبابا»، ليكتب ريبورتاجات ميدانية عن الأحداث هناك. اللقاء الميلودرامي يصبح مناسبة لاستعراض كليشيهات ثقافية وتحليلات سياسية وحزبية واتهامات وشتائم للنظريات
والإيديولوجيات.
بعد عودته إلى أميركا، يقرّر الراوي أن يقدّم تقريراً مفبركاً إلى الوكالة، يؤكد فيه أنّه التقى أحمد سعيد وميسون عبد الله، ويروح يلقي على عشيقته البولونية مقاطع أكثر دراماتيكية من مونولوغ جبر سالم. حتى أنه هو بنفسه يضطر للتدخل حين يقوم أحمد سعيد بصفع ميسون عبد الله أمامه. فيخاطبه بحماسة: «أنت ثوري... لا يجدر بك أن تفعل هذا»، فيرد أحمد سعيد: «لا أنا مجرد لص يمارس كل أعمال الخراء». حفلة جلد الذات والشتائم لا تتوقف هنا. إذ يلتفت سعيد نحو الراوي: «أنت بورجوازي قذر بينما أنا ثوري نزيه». أما ميسون عبد الله فتقول له: «أنت سافل... لا تكسب بجهدك إنما بجهود الآخرين». الراوي يطلب من عشيقته ألا تضحك: «لا وجود للحقيقة بالتأكيد. هذه الأشياء التي اخترعها كان يمكن أن يخترعها صحافي آخر... لكن بطريقة معكوسة، سيصنع من هذين الشقيين أبطالاً ومحرّرين».
الواقع أن كل هذه الأحداث لا تمثل سوى الهيكل العظمي لرواية «الركض وراء الذئاب» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر). وهي أحداث ينجح علي بدر في ترغيب القارئ بمتابعتها بسلاسة. ثمة خصوصية في لغة الرواية تؤمن التدفق والسيولة للنبرة التي كُتبت بها. لكنّ المشكلة أن هذا التدفّق يتحول استعجالاً في أغلب الأحيان، إلى حد أنّ مقاطع كاملة في الرواية كُتبت وفق محاكمات فلسفية متسرعة وشفهية للثورات ومصائر الثوريين، لأنماط الحياة وسلوك البشر، بحسب انتماءاتهم وهوياتهم...
قد تكون هناك طرفة ما في طريقة كتابة الرواية تدفع القارئ إلى تقبّل أشياء من هذا النوع، لكنّه إذا أمعن النظر بما يقرأه سيجد أنّ هذه النبرة التي تخلط كل شيء بكل شيء لا تقنعه بما يجري في الرواية. حتى أن الكاتب العراقي لا يبرر لنا لماذا وصل بطل الرواية إلى إثيوبيا براً ثم غادرها بالطائرة. ولماذا أوصلته عاهرة زنجية بدراجتها الهوائية إلى المدينة. ولماذا كانت لا ترتدي ملابس داخلية؟ ولماذا ستكون كل فتاة يلتقيها الراوي بلا ملابس داخلية؟ بعض القرّاء قد يشعرون أن النبرة المستخدمة في السرد تقدم لهم ملخصات لرواية كان يمكن أن تُكتب يصيغة أخرى. حتى أنّه قد يخيّل إلى القارئ أن علي بدر كتب روايته دفعة واحدة لفرط ما هي قائمة على الاستطراد والسيولة اللتين تخفيان تحتهما عجلة واستعجالاً. فهو، من جهة، مهتم بضرورة إقناع القارئ بواقعية ما يجري، إذ يسمّي الأماكن والشوارع والمحلات الإثيوبية بأسمائها، لكنه، في المقابل، يكتفي أحياناً بكليشهات سياحية عن الطبيعة الأفريقية. كما أنّ الكاتب العراقي لا يكترث إذا انحرف السرد عن خط سير الرواية، فتمتلئ مقاطع عدة بآراء وخلاصات وتقويمات ذاتية وعامة. أفريقيا كحاضن للرواية تستدعي فرانز فانون ونجوجي واثينغو وإيمييه سيزير وديريك والكوت وول سوينكا، لكنّهم يحضرون بطريقة تناسب السرد اللاهث الذي يمكن تشبيهه بقماشة من دون بطانة. إنه سرد قليل الأحشاء وبلا أعماق غائرة. أي إنّ التسرع والاستطراد يعوقان حضور الحياة بثقلها وتفاصيلها كلها في الرواية. يشعر القارئ بأنّ الراوي يخبره بخلاصات واستنتاجات أكثر مما يروي له الرواية نفسها. قد يستسيغ القارئ آراء الراوي أو الطريقة التي يحكم بها على التحوّلات التي تحدث حوله، لكن هل يكفي هذا وحده لكتابة رواية يهمّها أن تحفر عميقاً في وجدان القارئ وتبقى في
ذاكرته؟