حيفا ـ فراس خطيب
أهل فلسطين التاريخيّة لا يملكون محطة تلفزيون تخاطبهم، ما عدا البرامج الإسرائيليّة الناطقة بالعربية. والاحتلال يعمل جاهداً على عرقلة أي مشروع مستقل، في مجال الإعلام المرئي والمسموع، من شأنه أن يساعد فلسطينيي الـ ٤٨ على مواجهة عمليات طمس الهويّة التي دأبت عليها الآلة الصهيونيّة. هكذا تتعامل «ديموقراطيّة» إسرائيل مع مواطني الدرجة الثانية: أخذت أرضهم، وتثابر على مصادرة صورتهم وإلغاء خصوصيتهم

أكثر من مليون ومئتي ألف فلسطيني، يعيشون اليوم في الأراضي المحتلّة عام 1948، من دون أن يملكوا محطة تلفزيونية واحدة خاصة بهم... محطةٌ تمثّلهم كمجموعة قومية عربية فلسطينية، فتعبّر عن هويتهم وتحكي عن واقعهم الخاص جداً ضمن الدولة العبرية، وتعرض قضاياهم وتصلهم بعالمهم العربي. والأهم من كل ذلك، أن تظهرهم كما يريدون هم الظهور، لا كما تريدهم المؤسسة الإسرائيلية: رعايا معدومي التاريخ والحضارة و«أجهزة للتلقين»...
هذا الواقع فرضته عوامل عدة على فلسطينيي 48. لعلّ أبرزها سعي المؤسسة الإسرائيلية إلى عرقلة أي مشروع تطوير إعلام فلسطيني، تلفزيوني وإلكتروني. وإن كان إنشاء قناة تلفزيونية لأقليّة قومية، يبدو من أسهل وسائل النضال، لكنّه على الرقعة المسمّاة إسرائيل، يصبحُ مهمة مستحيلة تتعلّق بمليون قضية، وتبدأ من النكبة، عندما لم تستطع الدولة العبرية التخلّص من كل العرب، جسدياً وعملياً، فعملت على محاربة وجودهم وهويتهم.
في عام 1967، ظهرت الترجمة الإعلامية الأولى لهذه الحرب على الثقافة والهوية، عبر إنشاء سلطة البث الإسرائيلية التي تشدّد في مضامينها على يهودية الدولة، وتسعى إلى تطوير قنوات صهيونية ناطقة بالعربية، بزعم أنّها «تفي بحاجة العرب»!

محو الذاكرة الفلسطينية

إنطلاقاً من هنا، ترى حنين زعبي، مديرة «إعلام»، وهو مركز إعلامي يتوجه إلى المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، ومقرّه الناصرة، أنَّ الحديث عن إقامة محطة تلفزيونية تخدم فلسطينيي الداخل «تجاوز الحاجة» منذ زمن. وتوضح: «سياسة الإعلام، كسائر السياسات في إسرائيل، تجنّدت لتعيد صياغة الوجود العربي، على أن يرتكز دور الأجهزة الإعلامية على محو الذاكرة الفلسطينية. وهذا الدور لم يقتصر على الفلسطينيين فحسب، بل تعدّاهم إلى اليهود أيضاً. إذ إنّ محو الهوية الثقافية لليهود الآتين من بيئات ثقافية متعدّدة ومتنوعة، كان شرطاً لبلورة هوية وطنية جديدة ومشتركة لهم. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فمحو الذاكرة لم يهدف إلى إعادة بلورة هوية خاصة بهم، بقدر ما هدف إلى قمع عناصر التصادم مع المشروع الصهيوني». من هذا المنطلق، لم تسع إسرائيل إلى تطوير إعلام عربي، بل إعلام إسرائيلي ناطق بالعربية. فأصدرت، بدايةً، صحفاً تهدف إلى التأثير في قطاعات لم تصلها عن طريق وكلائها من «المخاتير» و«الوجهاء» وغيرهم.
وتؤكد زعبي أنّ «هذا الوضع يزيد من حاجتنا إلى قناة عربية، ليس للتعبير عن الرأي وطرح القضايا المصيرية فحسب، بل لمحاربة الإعلام الإسرائيلي، والتواصل الثقافي مع محيطنا العربي الطبيعي الذي انقطعنا عنه ثقافياً بصورة كاملة. والعزلة الثقافية هي عملياً سلاح سياسي على درجة كبيرة من الخطورة». وتشدد على أنّ فلسطينيي 48 «ليسوا جزءاً من الحراك الأدبي والفني في العالم العربي... كما أنّ الشعوب العربية، رفضت التعامل معنا، ورفضت أن ترى في تواصلها معنا نوعاً من محاربة المشروع الصهيوني، بل على العكس، رأت أن المسألة تطبيعاً مع الإسرائيليين. وهذا ينمّ عن عدم الإلمام بحقائق أوّلية، تتعلق بوجودنا ومشروعنا السياسي المقاوم للمشروع الصهيوني». وتشير زعبي إلى أنّ «من أعاد إحياء صورتنا في الوعي العربي هو قناة «الجزيرة»، ومن عبّر عن وجودنا، أصدق وأجرأ تعبير، هو عزمي بشارة»... وتكمل بصوت منخفض: «لكن «الجزيرة»، في النهاية، لا تستطيع أن تمنحنا أكثر من بضع دقائق إخبارية، فقط عند رصدها للأحداث الدرامية».

سدّ الفجوة

غياب قناة فلسطينية تتعاطى مع حقيقة واقع فلسطينيي 48 الباقين في وطنهم، لا يعني افتقاد المشاهد برامج تعنيه فحسب، بل امتدت آثار هذا الفراغ إلى أصعدة أخرى...
أولاً، لعبت قلّة الممارسة وندرة فرص العمل، دوراً أساسياً في عدم تطوير أي إعلام مرئي في الداخل، يرتقي إلى مستوى الفضائيات العربية، ويحكي عن الفلسطينيين بلغة فلسطينية بدلاً من مهاترات السلطة ومصالحها ورقابتها... أما النقص الثاني، فيكمن في إفساح المجال لقنوات إسرائيلية صهيونية ناطقة بالعربية للانتشار في صفوف فلسطينيي 48، ما أدى إلى انتقال بعض التقنيين والإعلاميين ـــــ وعددهم قليل ـــــ من عرب الداخل، إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية (العبرية والعربية) التي تفتقد بمعظمها إلى أدنى مستويات الصدقية، وتبتعد إلى حدّ كبير عن هموم الفلسطينيين. هكذا انخرطت قلة من الصحافيين في الإعلام الإسرائيلي، وصارت تحكي لغتهم. وهكذا أيضاً ترى، مثلاً، مذيعاً عربياً يقدّم النشرة الإخبارية بالعربية في القناة الإسرائيلية يومياً، ولا يتردد بوصف المقاومين الفلسطينيين بـ«المخربين»، وكل عملية ضدّ الاحتلال بـ«إرهابية». كيف لا ومرجعيته هي «جيش الدفاع الإسرائيلي»؟.
في ظل هذه العراقيل والمعوّقات، لم يفكر فلسطينيو الداخل حتّى بإنشاء قناة تجارية. ويعود ذلك إلى الأسباب نفسها المذكورة أعلاه. وفي عام 1996، اقترحت وزيرة الاتصالات شولاميت ألوني أن تُنشأ محطة عربية تجارية، بعد النجاح الذي حقّقته القناة الإسرائيلية الثانية. إلا أن الفكرة جوبهت بمعارضة من قبل اليساريين في الحكومة، متذرعين بـ«الخوف من كثرة القنوات التجارية». بعدها، قررت الحكومة الإسرائيلية افتتاح خمس قنوات، تخدم كلّ منها هدفاً: محطة بالروسية وقناة للموسيقى... وضمنها قناة عربية، أُدرجت في آخر سلّم الأولويات. وبطبيعة الحال، كانت هي المناقصة الأخيرة التي خرجت إلى النور في عام 2003. وبعدما تقدمت للمناقصة شركات يهودية ـــــ ما لا يخدم الهدف ـــــ فشلت الفكرة وغابت نهائياً. أما اليوم، فقد افتتحت القنوات الأربعة، ما عدا القناة العربية.
بقي أن نذكر، أن المشهد الأسود لم يقف حاجزاً دون بحث بعضهم عن محاولة إنشاء محطة عربية. وها هو نزار يونس، صاحب استوديوهات «الأرز» في الناصرة وحيفا، وهي استوديوهات تبث برامج إلى غالبية الفضائيات العربية من الداخل، يعمل جاهداً هذه الأيام لإنشاء قناة تلفزيونية ستبدأ على ما يبدو عن طريق الإنترنت...
ويبدو أنّ يونس، أثناء عمله، يفكر جلياً في قول أحد الإعلاميين، متحدثاً عن فكرة إنشاء محطة فضائية لفسلطينيي الداخل: «لا أحلم بالكثير، أحلم بتقديم برنامج إخباري في الصباح، من السابعة حتى التاسعة، فيه استعراض لصحف في العالم العربي، ومقابلة مع بعض الشخصيات الشيّقة».




صباح الخير... هنا الناصرة!

على رغم كل العراقيل التي تواجههم، أثبت فلسطينيو 48 أنّهم يبحثون باستمرار عن منبر إعلامي، يسلّط الضوء على قضيتهم، مهما كان هذا المنبر بسيطاً.
في نهاية تسعينيات القرن الماضي، تمّ افتتاح إذاعة عربية، أطلق عليها اسم «راديو 2000» كانت خاضعة لسلطة البث الثانية (وهذا أمر إجباري للترخيص). مع ذلك، جاء خطابها وطنياً من الدرجة الأولى، وهو ما جعلها تشهد إقبالاً واسعاً من فلسطينيي الداخل. وتؤثر سلباً في انتشار إذاعة «صوت إسرائيل» الناطقة بالعربية والتي تعبّر عن سياسة السلطة، تماماً مثل الفضائية الإسرائيلية. لكن «راديو 2000» أغلقت أبوابها لأسباب مادية، وافتتحت إذاعة «الشمس» في الناصرة عام 2003، وهي أيضاً تحظى بالانتشار بين صفوف فلسطينيي الداخل، بسبب تشديدها على المضمون الوطني. لكن هل العمل في هذه الإذاعات يبدو سهلاً، وسط كل الرقابة التي تفرضها إسرائيل؟
يستعيد زياد درويش، مدير البرامج في «راديو 2000» تلك التجربة الناجحة التي جعلت من «راديو 2000» عنواناً للفلسطينيين في الداخل، فيما لم يكن لديهم أي عنوان. وعلى عكس «صوت إسرائيل» التي لم تكن يوماً تعبّر عنهم، أو تستجيب لمطالبهم، لكونها تعكس سياسة السلطة الإسرائيلية... استعادت «راديو 2000» برامج إحياء ذكرى يوم الأرض، وذكرى الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)... كذلك استعادت استعمال كلمة شهيد ومقاتل فلسطيني بدلاً من استعمال كلمة مخرب.
إلا أن درويش، في المقابل، يعترف بصعوبة العمل داخل الإذاعة الخاضعة لسلطة البث الثانية الإسرائيلية الرسمية. ويقول: «كنّا في حرب وصراع دائمين من أجل أبسط الكلمات... لقد بدا واضحاً، أن هذه التجربة، في حال نقلها الى التلفزيون، ستلقى تفاعلاً كبيراً من الفلسطينيين، خصوصاً إذا حملت مضامين وطنية وقومية، تشحذ هممهم، وتساعدهم على تحمل ما يواجهونه يومياً».