strong>فراس خطيب
حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، لم يكن الحديث عن تلفزيون عربي لفلسطينيي 48 وارداً. في ذلك الوقت، لم تكن الفضائيات منتشرة كما اليوم. وكان في كل بيت عربي هوائيٌ يلتقط، في أحسن الحالات، أربع محطات رئيسية: الأردن، القناة الإسرائيلية الأولى، الشرق الأوسط. ومن كان يسكن في القسم العلوي من القرية، أي في قمة الجبل، يحظَ بمشاهدة قناة سوريا أيضاً. هكذا اعتمد فلسطينيو 48، قبل «غزو الفضائيات» على المسلسل العربي (المصري أو الأردني) بعد نشرة أخبار الثامنة مساءً. وفي أيام السبت، كانت قناة «الشرق الأوسط» تعرض عند الثامنة مساءً برنامج «المصارعة». فيما كان يوم الجمعة، عند الساعة الخامسة مساءً، الموعد المنتظر مع الفيلم المصري على التلفزيون الإسرائيلي. كانت الشوارع في هذه الساعة تخلو من الناس الذين يتحلقون حول الشاشة الصغيرة.
بقيت الحال على هذا المنوال حتى بدأت ثورة الفضائيات... اجتاحت القنوات العربية منازل الفلسطينيين، ما جعل المحطات المذكورة أعلاه تقبع في الهامش. وهذه الفورة لم تترك آثارها في الفلسطينيين المعزولين عن شعبهم في العالم العربي فحسب، بل خلقت بلبلة على مستوى السلطات الإسرائيلية. يومها، بدأت الدولة العبرية تفكّر جدياً في بناء مؤسسة إعلامية صهيونية ناطقة بالعربية (صارت في ما بعد تعرف باسم «القناة 33»)، وهدفها الردّ على «أكاذيب» قناة «الجزيرة»، كما قال صاحب الفكرة، أرييل شارون، في نهاية تسعينيات القرن الماضي من على منبر الكنيست. أما الهدف الثاني للمحطة فهو «تغيير صورة إسرائيل في العالم العربي». في عام 2001، عندما انتخب شارون رئيساً للوزراء، سعى إلى تنفيذ الفكرة، وجلّ اهتمامه وقتها كان «نشر وجهة النظر الإسرائيلية في العالم العربي». هكذا تألّفت لجنة، غالبيتها من اليهود، لوضع «رؤية» لهذه الفضائية التي لم تخفق فقط في مخاطبة العرب وهموهم، بل اعتبرها الفلسطينيون «خطراً على قضيتهم». ثبت فشلها منذ انطلاقها في العالم العربي، كما أثبتت فشلاً أكبر بتعاملها مع المشاهد العربي، لأنها كانت تلقينية بامتياز: خضعت البرامج لمراقبة محكمة. أما اللهجة فكانت صهيونية، أكثر بكثير من لهجة القنوات التي تبث بالعبرية، رغم أنّها (أي البرامج)، قسّمت بين العربية والإنكليزية. ليس هذا فحسب، فقد كُشف عن تجاوزات مالية وتعيينات غير صالحة وقضايا فساد لا تنتهي. ومنذ افتتاحها، عالجت «القناة 33» الموضوعات السياسية بسطحية بالغة. وكانت برامجها، المنبثقة من سياسة تلقينية مخابراتية، تشبه إلى حدّ كبير دروس الإنشاء في اللغة العربية: «هل سيكون سلام في المنطقة؟»، أو «الشباب إلى أين»... كل ذلك حقّق نسبة مشاهدة لم تتعدَّ 1 في المئة، أما نسبة مشاهدتها في العالم العربي فكانت تقترب من الصفر. صارت «القناة 33» قناة الأرشيف.
وراح القائمون عليها يبثّون برامج ومسلسلات إسرائيلية، أكل الدهر عليها وشرب، وكانت تعرض في الثمانينيات. أما بالنسبة إلى البرامج، فالتقنيات باهتة وبائسة، كأن البرامج كلها صورت بكاميرا فيديو عادية... أرادت المؤسسة الإسرائيلية كسب تأييد الفلسطينيين في الداخل من طريق «النوستالجيا»، إلا أن الغضب على الماضي كان أقوى من الحنين إليه. وهي فشلت، بأرشيفها المعتق، لأن ما يسري على النبيذ لا يسري بالضرورة على البرامج التلفزيونية. وفي تموز (يوليو) الماضي، أعادت الحكومة الإسرائيلية، بحضور الوزير يتسحاق هرتسوغ، بحث قضية «القناة 33» وكيفية إعادة الحياة إليها. كانت هناك مقترحات عدة، بينها عرض أفلام هوليوودية تحتوي على لقطات جنسية، «لا تتعرض للحذف كما تفعل قنوات العالم العربي». مثّلت الجلسة إهانة للمشاهد العربي، وتم التعاطي معه على أساس «أنك تكسب المشاهد العربي عن طريق لقطة جنسية، ثم تلقّنه ما تريد». وقد تناسى هؤلاء أنّ هذا المُشاهد لم يعد محدود الأفق، وأن فلسطيني الداخل ـــــ كما أثبتت الدراسات الأخيرة ـــــ يفضّل القنوات العربية، ولا يعير اهتماماً بتاتاً لفضائيات شارون.