strong> خليل صويلح
تستعيد نجاح حرب التيناوي، حفيدة الرسام الشعبي أبي صبحي التيناوي (1888 ـــــ 1973)، رسوم جدّها، عبر معرض ضخم في فضاء المركز الثقافي الفرنسي في دمشق. المعرض حدث استثنائي حقاً. فرسوم الفنان السوري التي خلّدت أبطال الملاحم والأساطير الشعبية، مثل عنترة وعبلة والزير سالم والظاهر بيبرس والزيناتي خليفة، لطالما ألهمت عشرات الفنانين الكبار في أهمية تأصيل الفن المحلي بمفردات وعناصر شرقية، بعيداً من تأثيرات الحداثة الوافدة. ولعل في تجارب رفيق شرف وبرهان كركوتلي خاصةً، أفضل مثال على الإفادة المباشرة من خطوط التيناوي ومخيلته الفطرية في رسم شخصيات مستمدّة من رموز الذاكرة الشعبية.
أبو صبحي التيناوي، حكواتي آخر استبدل صور صندوق الفرجة بالرسم على الزجاج، من دون أن يفكّر لحظةً واحدةً في أبعاد اللوحة وأهمية المنظور وتناغم الألوان وتجاورها. ألم يرسم مرةً حصان عبلة ناقصاً؟ وعندما انتبه إلى أنّ مساحة اللوحة لم تعد كافية لرسم ذيل الحصان، وضعه في مكان فارغ من أعلى اللوحة وكتب تحته: «هذا ذيل الحصان».
لن يستغرب زائر المعرض إذاً أن يرى عبلة فوق حصان مرسوم بالأحمر، وفي لوحة ثانية بالأزرق، فيما يبدو شيبوب ضئيلاً، وبالكاد تصل قامته إلى مستوى قائمتي الحصان. أما عنترة، فله شأن آخر. أليس هو فارس الفوارس؟ شوارب معقوفة وسيف مسلول وعينان حادتان. لا ينظر إلى عبلة، بل يمتطي حصانه إلى جانبها، وينظر إلى عين المصوّر مباشرة، كما لو أنّه يلتقط صورة تذكارية. فالبعد الحكائي هو من يتحكّم بحجم ومواقف الشخصية المرسومة. سيف عنترة المسلول ينتهي أحياناً برأس أفعى أو ببيت شعر: «سيذكرني قومي إذا الخيل أقبلت، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر». فيما ترفع عبلة يدها بوردة. وفي لوحة «موكب الحج»، يزيّن التيناوي مساحة اللوحة بألوان مبهجة، تبعاً لتعدد طقوس هذه الاحتفالية السنوية، فتزدحم المساحة البيضاء بالشخوص والكائنات، ما يضطره إلى شرح أسماء أبطال اللوحة قبل أن يضع توقيعه الشهير «أبو صبحي التيناوي ـــــ باب الجابية ـــــ زاوية الهنود ـــــ دمشق»
نجاح حرب التيناوي تعلمت تقنيات الرسم على الزجاج في مشغل جدها. وها هي تعيد رسومه إلى الواجهة بالألوان والخطوط عينها، ما يفسح في المجال مجدداً لإطلالة متأنية على تجربة هذا الفنان الفطري، ورسوم «الناييف» عموماً، بوصفها مقامات لونية شرقية صرفة، وذات طابع دمشقي حميم، بعدما وصلت الحداثة إلى طريق مسدود. وإذا كان التيناوي الجدّ لم يغادر دكانه في باب الجابية طوال حياته، فإن أعماله وصلت إلى معظم أنحاء العالم، بما فيها جدران متحف اللوفر، لتعيد الاعتبار مرة أخرى إلى أهمية الفنون الشعبية وقدرتها على الاستمرار والمواجهة.
بعد الإقبال الكبير على اقتناء رسوماته، لجأ التيناوي إلى الرسم على القماش ونسخ أعماله، ثم أورث مهنته إلى أبنائه وأحفاده، من دون أن يتخلى هؤلاء عن تقليد توقيعه. ويلحظ تأثّره برسوم المخطوطات الإسلامية و«كليلة ودمنة» ورسوم الواسطي. حتى أنه نسخ لوحته المعروفة «الإبل»، وأضاف إليها بعض التزيينات الزخرفية. وهو ما يؤكد اطلاعه على رسوم هذه المخطوطات التي تنتمي إلى تقاليد تزيينية قديمة، عراقية وفارسية، كان التعليق على الرسوم بنصوص وتعليقات جزءاً حيوياً من خصوصيتها.
الحكايات الشعبية إذاً هي المرجعية الأساسية لرسوم التيناوي. وهو يرسم ما يسمعه من الحكواتي، لكنه ما يلبث أن يطوي صفحة الأبطال الشعبيين ويلتفت إلى الأساطير، حين يرسم «سفينة نوح» مثلاً أو يستبدل صلاح الدين الأيوبي بعنترة أو جحا، تبعاً لاهتمامات الشارع الشعبي وتطلعاته اليومية. وستبقى عبلة هي الحلم الذي يتكرر على الدوام. ذلك أنّ الحكاية لا تكتمل من دون ملهمة للبطل. عبلة فوق الناقة أو الحصان، وفي هودجها بستان من الزهور والطيور التي تحط باطمئنان على كتفها، فيما القافلة تبتعد. العناية بتطريز الثياب ونمنمة إطار اللوحة جزء أساسي من أعمال هذا الرسام الشعبي، كأنه بذلك يغطي عيوب تفاصيل الشخصيات، وخصوصاً ما يتعلق برسم العيون والأيدي.
لا تخلو اللوحات المرسومة بريشة من شعر الماعز من احتدام عاطفي، يستقيه الرسام في الغالب من نبرة الحكواتي أثناء سرد الحكاية. وهو حين يستعيدها على الزجاج،لا ينسى أدق التفاصيل. كأن يرسم أشخاصاً مجهولين ويكتب شارحاً «عسكر». وليس مستغرباً أن يتسلل علاء الدين ومصباحه أو مجموعة من الدراويش إلى فضاء اللوحة.