strong>حسين بن حمزة
  • كاتـب الاختـزال والقسـوة إلى الفرنسـيّة والإنكليـّزية

  • «إني منتسب إلى ما قرأت، لا إلى موجة أو جيل»، هكذا يقدّم نفسه حسن داوود. كاتب يقف على حدة بين رواد الولادة الثانية للرواية اللبنانية التي ازدهرت خلال الحرب. يكتب بالممحاة، ويتعامل بقسوة مع نصّه وقارئه على السواء

    روايته «غناء البطريق» صدرت حديثاً بالفرنسية عن دار «أكت سود»، وقريباً تصدر روايتاه «سنة الأتوماتيك» و«أيام زائدة» بالإنكليزية عن دار «تليغرام» البريطانية. حسن داوود، حالما يُذكَر اسمه تتبادر إلى الذهن نبرة هذا الروائي التي أفردت له مكاناً على حدة في المشهد الروائي العربي. كاتب من طراز خاص، ممارسته الروائية غايتها في سياقها الأدبي أولاً، لا في الأحداث والشخصيات. إنها، قبل كل شيء، تخدم نفسها. منذ «بناية ماتيلد» (1983) التي جعلته يحتل مكانه بسرعة في المشهد الروائي، اهتدى حسن داوود إلى تلك النبرة التي تتكفّل بابتكار حياة أدبية موازية، أو متفوّقة على الحياة المفترضة لشخصياته في الواقع. تكاد لا تسلم جملة واحدة من عنايته الأسلوبية. حتى إن القارئ قد يتساءل كلما قرأ له عملاً: إذا كان قد بذل كل هذا الجهد في هذه الرواية، فكيف سيكتب رواية أخرى؟ لكن صاحب «سنة الأتوماتيك» يعود الى بذل العناية الفائقة ذاتها في كل مرّة.
    يقول داوود: «معلوم أن هذه الكتابة شاقة. أحياناً أقول إنني قسوت على نفسي، أو كنت على الدوام ناقداً لها، ولم أسمح بأن يجري الكلام مرسلاً مسترسلاً مما يستسيغه القرّاء ويحبونه. لم أستطع أن أكتب سطراً لا يدل على نفسه، إضافة إلى دلالته في مجرى الرواية. كأنني إزاء مرايا أحب أن أرى ما فيها تاماً كاملاً. إنّها كتابة شاقة وقد تحتاج إلى صبر وجلد. أعرف أن رواياتي قست أيضاً على قرائها. إذ هي إما تدفعهم إلى تركها، وإما تجبرهم على قراءتها في طريقة جلوس هي غير الاستلقاء والاسترخاء. إنها قراءة أشبه بإنزال القصاص بالذات».
    لكن هذه النبرة جعلت حسن داوود يُعرف كصاحب روايات قصيرة، مقارنة بمن يكتبون روايات أطول؟ ألا يخطر له أن يكتب عملاً كبيراً؟ «لا أخفيك أن طقوس الكتابة التي تلازمني مهجوسة بذلك. فأنا أعد الكلمات كلما انتهيت من كتابة ما أنجزه كل يوم. ثمة شعور يلازمني بأنّ علي أن أكتب عملاً كبيراً. وكلما باشرت رواية جديدة قرّرت أنها هذا العمل المنتظر. أعرف أن هناك تقنيات يستطيع الكاتب اللجوء إليها لتكثير صفحات روايته، لكني دائماً أجدني ميالاً إلى ذلك الإيجاز أو هو يميل إلي، جاعلاً صفحات روايتي قليلة أو أقل مما أمِلت». ويضيف: «إن عدداً من أهم الروايات في العالم كانت قليلة الصفحات، مثل «المحاكمة» لكافكا».
    رغم أنه كتب أعماله وفق هاجس الكثافة والإيجاز والتجريد، إلا أن ثمة تفاوتاً بينها، تُرى، ماذا يختار لو طُلب منه أن يسمّي العمل الأكثر تمثيلاً لفنه الروائي؟ يقول: «في رحلتي الأخيرة إلى إندونيسيا، حرت بماذا أجيب حين سألني شاب إندونيسي يجيد العربية: أي كتاب يقرأ لي؟ فكرت في «بناية ماتيلد» التي تحتشد فيها شخصيات كثيرة، والتي أجدها كثيرة الألوان إن رحت أستحضر مشهداً منها. ثم فكرت في «أيام زائدة» التي أحبها قراؤها. في ما يخصني، أحب تلك الصعوبة الزائدة في «غناء البطريق». ذلك الكتاب الذي لم يحظَ بالثناء الذي حظي به سابقاه. لو شئت أن أسمّي ما هو أقرب إلى مشروعي الكتابي، لقلت «غناء البطريق» الذي هو نص أدبي من ألفه إلى يائه، ومكتوب بممحاة بقدر ما هو مكتوب بالقلم».
    الأرجح أنّ هذه النبرة الشاقة التي لا ينجو منها أي تفصيل روائي تسهم في إبعاد تجربة حسن داوود عن بيئتها اللبنانية وتصنع له نسباً إضافياً. وهذا ما يميل صاحب «أيام زائدة» إلى ترجيحه، يقول: «المصادر التي شكّلت وعيي الكتابي وجدتها لدى كتّاب كنت غالباً ما أتوقف، مستمتعاً، عند نهاية كل مقطع من رواياتهم، بما يتناقض مع المعنى الشائع عن الاسترخاء أثناء قراءة الروايات. مصادري هي لكتّاب أجانب وبعض المصريين. فولكنر، ملفيل، كونديرا. كاتب مثل نجيب محفوظ، مثلاً، لا أعرف ماذا بي منه وماذا بي ليس منه. إبراهيم أصلان يجعل القراءة مشعّة على الدوام. أحسب أني منتسب إلى ما قرأت، لا إلى موجة أو جيل كتابي يمكن أن أُنسب إليه. في هذا السياق أجدني ذاهباً، في ما يُعجبني، إلى أبعد من محيطي الضيق».
    في كل الأحوال ينتمي حسن داوود إلى جيل الولادة الثانية للرواية اللبنانية التي كُتبت وازدهرت في فترة الحرب وبعدها. فهل في وسعنا الحديث عن خصوصية ما لتلك الرواية اليوم؟ يجيب: «بحسب ما يقوله الآخرون عنا، نحن بتنا متميزين في أدبنا الروائي. يحلو لبعضهم مثلاً أن يضعنا إلى جانب كتّاب الرواية في مصر، أو أن يجعلنا درجة ثانية بعدهم. وهذا في حسباني تقدير كبير. ذلك لأنّ الرواية المصرية راسخة ومتنوعة. بالنسبة إلي، أشعر بأنّنا فعلاً في بداية ما، ضاجّة وكثيرة الجلبة، لكنها بداية. لعل ما يدفعني إلى قول هذا هو جِدّة هذه الرواية وإمكان اعتبارها بدءاً حقيقياً، ما دام أن من سبقنا إلى كتابة رواية لبنانية أودعناه الكتب المدرسية، توفيق عواد، حبشي الأشقر وسواهما. إنها رواية جديدة بالفعل لأنها غير منتمية إلى ما كان يمكن أن يكون ماضياً سبقها».
    لكن إذا دقّقنا في الرواية اللبنانية فسنجد أن ثمة نوعاً من الإيهام بأنها تتواصل، وأنّ أجيالاً جديدة تركب موجتها. معظم كتّابها في الواقع هم من جيل واحد تقريباً... رغم أن هؤلاء نشروا أعمالهم في أزمنة متباعدة: هدى بركات، علوية صبح، محمد أبي سمرا، جبور الدويهي، إيمان حميدان يونس... هؤلاء رغم أنهم بدأوا النشر متأخرين لكنهم، في العمر والتجربة، من جيل حسن داوود نفسه... يعلّق داوود: «ذلك لأن الرواية عندنا لا تزال تتكاثر في موضعها ذاته. في الرواية أو في نادي الروائيين، قلّما تجد نزلاء جدد. الرواية عمل يتطلب زمناً وجَلَدَاً وعناداً بما لا يُتيح للراغبين في مجرد الكتابة أن ينجزوه بسهولة. إضافة إلى أنّ هذا الجيل شهد حياة مدينة وموتها. خراب البلد بحد ذاته دراما روائية كاملة. معظم هؤلاء الكتّاب تناولوا المفارقة نفسها: إن أي مشهد لبناني لا يزال يُرى في زمنين، وهذا محرك دائم للتعبير الروائي. ربما هذا هو سبب تكاثر الرواية اللبنانية في هذا الموضع». ثم يستدرك صاحب «غناء البطريق»، فيرى أن هذه ليست حال الرواية فقط: «خذ ميادين أخرى مثل التاريخ والسوسيولوجيا: من جاء بعد أحمد بيضون مثلاً؟».