خليل صويلح
يحيل بحث مازن عرفة إلى كتاب ألبرتو مانغويل «تاريخ القراءة»، إذ يستعيد تاريخ التدوين من استنباط الورق واختراع قلم الحبر إلى النص الإلكتروني. ويتوقّف عند الأبعاد السياسية والدينية التي اكتسبها الكتاب، معرّجاً على أهوال الرقابة في العالم العربي

يقتفي مازن عرفة في كتابه الموسوعي «سحر الكتاب وفتنة الصورة» (دار التكوين ـــ دمشق) رحلة الكتاب من الثقافة النصّية إلى سلطة اللامرئي، في تجوال تاريخي وسوسيولوجي يحيل بشكل ما على كتاب ألبرتو مانغويل «تاريخ القراءة». إلّا أنّ عرفة يبذل جهداً إضافياً، من خلال مواكبة كل ما يتعلق بعناصر الكتاب والكتابة والتلقّي ومجتمع المعلومات. هكذا يستعيد تاريخ الورق بوصفه واحداً من أهم الابتكارات التقنية التي أبدعها العقل الإنساني. إذ يمثّل نقلةً نوعيةً تاريخية من العصور القديمة إلى العصور الوسطى... حتى ظهور الشرائط الممغنطة والشاشات الإلكترونية كمنافس جدي له.
وإذا كان الورق قد ارتبط بالكتاب المخطوط أولاً، فقد تبلورت أهميته مع اكتشاف الطباعة، ليصبح أهم وعاء لتبادل المعلومات وحفظها، وصولاً إلى التأثير الحسي والبصري للورق. وبعيداً من استعمال الورق كحامل للكتاب، استُخدم في مقاصد أخرى، أضفت عليه هالة قدسية باستعماله في كتابة التمائم والرقى، أو في طباعة صور الزعماء في ملصقات مستقلة ومقدّسة لا يجوز المساس بها (!) وصارت «الاستخدامات الورقية تدخل في سياق التعبيرات الثقافية في بيئة اجتماعية محددة، بما فيها الجوانب الروحية والإيديولوجية المباشرة».
لا تكتمل أهمية الورق إلا في الكتابة، وعندئذٍ يحتل القلم موقعاً مرموقاً في إيصال الفكرة المرجوة. ولعل في اختراع لويس ووترمان قلم الحبر السائل (1884)، قفزة حداثية أطاحت زمن الريشة المصنوعة من القصب أو ريش الطيور، وولدّت مؤثراً حسياً في تسجيل الأفكار والمذكرات واليوميات. فالكتابة بخط اليد تُعبر عن حميمية أكبر تفتقر إليها الآلة الكاتبة والكمبيوتر.
ويشير عرفة إلى أهمّية البعد الجمالي للكتاب لدى المتلقّي، سواء لجهة نوع الورق أو لجهة الغلاف واسم دار النشر. فالكتاب «نظام حي يعيش بعناصره كلّها خلال علاقته بالمتلقّي وهي علاقة تفاعلية مركّبة، جمالية ومعرفية». كما يتوقّف عند الارتباط الشخصي بالمكتبة المنزلية. إذ تأخذ العلاقة مع الكتاب طابعاً شخصياً وحميمياً، فهو يعكس بعضاً من تاريخ حياته من طريق الذكريات والانفعالات الشخصية والملاحظات التي تركها في هذه الصفحة أو تلك.
بخصوص الإهداء الذي يزيّن الصفحة الأولى من الكتاب يقول: « إن الكتاب المميز بالإهداء الخطي لمؤلفه يصبح غير قابل للبيع أو للإهداء مرة ثانية. ومن المحزن أن يجد المؤلف كتابه الذي أهداه ذات يوم يُباع على الأرصفة ولدى بائعي الكتب القديمة». وينصح بتمزيق صفحة الإهداء قبل التخلّص من كتاب ما، قبل أن يشير إلى أن الكتابات المخطوطة باليد، سواء على الورق أو على هوامش صفحات كتاب، تضيء بعضاً من نفسية كاتبها ومشاعره وانفعالاته، أثناء لحظة كتابتها.
ليست الكتب القديمة وحدها هي التي تقع في خانة الكتب النادرة، هناك أيضاً الكتب الممنوعة. في المجتمعات التي تحكمها أنظمة رقابة صارمة، يصبح الكتاب الممنوع مرغوباً، لكن ما سبب منع كتاب ما؟. يقول مازن عرفة: «في العالم العربي تتسع قائمة المنع لتشمل مواضيع دينية وسياسية وجنسية، على رغم أن بعض الكتب الممنوعة قد لا يحمل أي أهمية فكرية، كما أن معظمها لا يمثّل خطورة إلّا في منظار المؤسسات المسيطرة التي تخشى الرأي الآخر». ويضيف موضحاً إنّ التحولات التقنيّة التي شهدها العالم في نهاية القرن العشرين، ألغت دور المؤسسات الرقابية إلى حد كبير، ما جعل الكتب الممنوعة متاحة بفقدان قيمتها الرقابية، وقاد إلى خانة أخرى في رحلة الكتاب وارتباطه بالأنظمة السياسية. إذ تلجأ بعض الأنظمة الشمولية العربية إلى اعتبار الكتب المقدسة جزءاً من أيديولوجيتها في قهر شعوبها، وذلك باستخدام بعض محتوياتها على أنها تقديس لقادتها كحقائق مطلقة. وهو ما ينطبق أيضاً على منشوراتها الدعائية وكتب الزعماء لتأكيد «عبادة الفرد».
باندحار مشاريع النهضة العربية، أواخر ثمانينات القرن المنصرم، وإخفاق الأحزاب الراديكالية في تحقيق برامجها، تراجعت نسبة قراء الكتب الماركسية، لتحل مكانها الكتب الدينية، وخصوصاً تلك المرتبطة بالتيارات السلفية. هكذا عادت إلى واجهة المكتبات كتب سيد قطب وحسن البنا وابن تيمية والغزالي، تعبيراً عن «العودة إلى الأصول»، إضافةً إلى الكتب الموجهة إلى المرأة لتحذيرها من مخاطر التبرج والاختلاط بالرجال وضرورة الحجاب، إلى أحكام تحريم التصوير والغناء وزيارة القبور وآداب الخلاء. إخفاق الحداثة العربية إذاً ساعد على ظهور الكتب التي تعتمد طرق التفكير الغيبية والأسطورية في كشف المستقبل المظلم، وقيام الساعة الصغرى والكبرى... فيما اقتصر الكتاب التراثي العقلاني على النخب الفكريّة ورافعي لواء العقلانيّة.
ويعرّج عرفة في فصل آخر على تاريخ أسود للكتاب، بسرد حوادث إتلاف الكتب من طريق مؤسسات رسمية دينية وسياسية، فالتاريخ الإسلامي يحفل بحوادث إتلاف الكتب، منذ حرق مكتبة الإسكندرية أثناء فتح مصر، وصولاً إلى حرق كتاب «آيات شيطانية» للكاتب سلمان رشدي.
الانفجار المعلوماتي، مطلع القرن الواحد والعشرين، أفرز نمطاً جديداً في القراءة، كأن الكتاب الورقي هو المعادل الفكري لتيار الحداثة. فيما صار النص الإلكتروني صنواً لتيار ما بعد الحداثة. وحسب مفهوم التناص، أخذ النص ينفتح على شبكة متعالقة من النصوص الأخرى التي لا تعرف الثبات الذي كان يتميز به النص الورقي. فبرزت سلطة القارئ على حساب «موت المؤلف»، وانتصرت الصورة على الكتابة أو على الأقل أخذت تنافسها جدياً. ففتنة الصورة لم تأت من فراغ. هكذا اكتسحت الصورة التلفزيونية لاحقاً كل ما سبقها عبر استلاب المشاهد من جهة، وتمرده على رقابة أنظمته القمعية المحلية من جهة أخرى. ثقافة العولمة من جهتها اقترحت الصورة الإلكترونية «الفيديولوجيا» التي تبنّت واقعاً افتراضياً بلا حدود.