strong>محمد محسن
يطالعك بلحيته البيضاء وابتسامة لا تدلّ على طبيعة عمله أو وضعه الحياتي الصعب... فتعابيره وحيويّته بعيدة عن قساوة الموت وجموده.
الحاج أحمد نجم، ابن الخمسة والثمانين عاماً، نال قبل عامين يوبيله الفضي كـ«ساكن مقبرة» بعد أن كان حفّار قبورها. قبل سبعة وعشرين عاماً، انتقل الحاج أحمد من مهنة البناء في بلدة الطيبة الجنوبية إلى حفر القبور في جبّانة الطيونة. سبعة وعشرون عاماً تركت أثرها في وجه الشيخ الثمانيني وانحناء ظهره وقساوة يديه، لكنّها علّمته أشياء كثيرة عن الحياة والموت وما بينهما. «الموت كبير، بس يخلص عمر الشخص غصباً عن الطبيعة بدّو يموت» هكذا يرى الحاج أحمد الموت وهو لا يخاف منه. فقد اعتاد على وجوده وعايش الجنائز المتتالية لصغار وكبار انتهت أعمارهم بغمضة عين. يحسد الموتى على حالتهم «مكيّفين ومرتاحين أينما كانوا الآن». أما علاقته بربّه فهي خاصة جداً و«لا دخل لأحد فيها وفي تفاصيلها». لا فرق عنده بين قبر مزيّن ونعش متواضع «الموت لا يميز بين الغني والفقير أو الشاب والعجوز فهو يأخذ الجميع سواسية» يتنهّد قليلاً، يفاجئك بدعاء يدلّ على مدى تآلف الشيخ الهرم مع فكرة الموت ووضع حدّ لحياته «الله يحببنا بالموت تيصير يحبنا وياخدنا مرتاحين» يقول محدّقاً بالسماء. لا تزعجه مناظر الأضرحة كل صباح، فقد اعتاد عليها والحاج أحمد يعيش في «تخشيبة متواضعة جداً» على سطح المقبرة. يصل إليها عبر سلّم طوله أربعة أمتار، يتجاوزها برشاقة مذهلة. والغرفة لا تستوفي شيئاً من الشروط الصحية. الرطوبة تكتسح جدرانها، وأثاثها القديم لا يدل على أي مظهر من مظاهر الحياة الكريمة أو الطبيعية التي يجب أن تؤمّن لرجل يستحق عناية خاصة.
سجلّ حياته خال من الأقارب والأبناء، و«قصره» الذي يشرف على «حديقة من القبور» لا يشاركه فيه أحد. عاش عازباً طوال عمره. إلا أنه لا يخفي رغبته بالزواج، ويقول مبتسماً «الله ما بعتلي بنت الحلال. إذا في شي تحت إيدك ما عندي مشكلة بتجوّز». أما بالنسبة لجيرانه فهم لا يعيرونه أي اهتمام، وهو يبادلهم الشيء نفسه.
وضعه الاقتصادي مزرٍ جداً. لا يتقاضى راتباً من أحد، بل يتّكل على بعض مما يتكرّم به الزوّار عليه، كما يقوم ببيع باقات من الريحان لزوار الجبّانة بسعر لا يسدّ إلا القليل من حاجاته. أجريت له عملية جراحية في قلبه أخيراً، فأبعدته عن العمل الشاق.
الحاج «أرواح» كما يحلو للبعض تسميته لا يخاف من النوم بين القبور، ولا يرى منامات موحشة، «بسكّر الباب على حالي، وما خصّني بكل شي عم بيصير برّا» يردف ضاحكاً ضحكة من يعرف أن وضعه غريب لا يمكن للأفراد العاديين أن يتحمّلوه.
ولكن من يرى الحالة الصعبة المزرية التي يعاني منها الحاج أحمد، ربما يجد له أعذاراً لجهة حبّه للموت وعدم شعوره بالرهبة من منظر القبور والنوم بينها. فهي في جميع الحالات أسهل من حياة أقلّ ما يمكن وصفها بفيلم مأسوي طويل، بدايته ظلم ونهايته شقاء...