ياسين عدنان
  • صديق فوكو، وماركسي، وسلفي، وانتهازي، و... إسباني

  • عاد المؤرخ الشهير ورائد علم الاجتماع الحديث، ليجد نفسه وسط دوّامة من الاجتهادات والمحاكمات والصراعات... بعضهم يمجّده، والبعض الآخر يتبرّع بتصحيح أخطائه المنهجيّة! كيف نقرأ صاحب «المقدمة» في مئويته السادسة؟

    احتفلت مكتبة الاسكندرية أخيراً بصدور النسخة العربية لكتاب «ابن خلدون ـــــ البحر المتوسط في القرن الرابع: قيام وسقوط إمبراطوريات»، بالتعاون مع مؤسسة التراث الأندلسي ووزارة الثقافة الإسبانية. وتُعتبر هذه الفعالية الثانية من نوعها التي تخصّصها المكتبة لصاحب «المقدمة»، بعد ندوة «عالمية ابن خلدون» التي احتضنتها في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. فعاليّات أخرى لا تقل أهمية نُظّمت في كل من القاهرة والجزائر وتونس والرباط والدار البيضاء وإشبيلية على مدار الأشهر الماضية، احتفالاً بالمئوية السادسة لوفاة «العلّامة». وإذا كانت المكتبة الخلدونية العربية قد تعزّزت ببضعة عناوين صدرت في المناسبة، فإن ابن خلدون وجد نفسه مع ذلك في قلب معارك أغلبها لا يعنيه.
    أطرف هذه السجالات حاول الحسم في مسألة الهوية القطرية لصاحب «كتاب العبر». وإذا كان التونسيون قد أظهروا بعض الترفّع على هذا المستوى لأن عبد الرحمن وُلد بين ظهرانيهم في شارع تربة باي في تونس القديمة في 27 أيار (مايو) 1332... فإنّ الإسبان، وتحديداً أساتذة شعبة الفلسفة والدراسات العربية الإسلامية في جامعة إشبيلية، ليسوا مستعدين للتأمين على «ادّعاء» التوانسة. فعائلة ابن خلدون حسب البروفسور رفاييل فلانسيا رودريغيز استقرت في مدينتهم مع دخول الفتح الإسلامي، وتُعتبر من العائلات الأندلسية العريقة، وذات النفوذ في منطقة كارمونا حيث كانت تملك حقولاً شاسعة. بل ما زالت عائلة «ابن خلدون» في إشبيلية تحتفظ باسمها العربي حتى الآن.
    وإذا كان رودريغيز ورفاقه في الجامعة قد نظّموا قبل أشهر معرضاً كبيراً حول ابن خلدون، فإنهم ما زالوا يطالبون بإطلاق اسمه على إحدى ساحات مدينتهم. أما المغاربة فناب عنهم الدكتور عبد الهادي التازي عضو أكاديمية المملكة الذي ألقى محاضرات عدة في القاهرة والرباط هذه السنة هاجم فيها دارسي ابن خلدون الذين «تجاهلوا دور المغرب» في حياته وفكره. وأكّد أنّ صاحب «المقدمة» «مغربي حتى النخاع». فالرجل «ظل متشبثاً بالزيِّ والخط المغربيين، حتى عندما تولى القضاء في القاهرة حيث كان يُفرض على القضاة ارتداء زي خاص»، يوضح التازي في معرض دفاعه المستميت عن مغربية ابن خلدون.
    مشكلة أخرى يجد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي نفسه مُتورّطاً فيها، هذه المرة مع ميشيل فوكو شخصياً. بعدما نظّمت مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات بالتنسيق مع «المعهد الدولي للفلسفة» ندوة مقارنة في الدار البيضاء، بعنوان «ابن خلدون ــــ ميشيل فوكو: المثال، الحالة، والأنموذج»، تصدّت بعض الأقلام الفلسفية المغربية لهذه المحاولة «اليائسة» لإدماج الفكر الخلدوني في الأدبيات الفلسفية المعاصرة. «فاللقاء بين فوكو وابن خلدون، هذا الفقيه الأشعري الذي حارب فلاسفة الإسلام وظل يعتبرهم أهل كفر وإلحاد، مستحيل ومتعذر». وعلى رغم أنّ ابن خلدون لم يسهم في تنظيم هذه الندوة، ولا في تحديد موضوعها... فقد وجد نفسه في قلب تصفية حسابات «فلسفية» أبى أصحابها إلا أن يضرموا نارها في جُبَّته. مع العلم بأنّ الندوة لم تفعل أكثر من البحث في أوجه الشبه بين مساري هذين العلمين. فمثلما قام فوكو بالبحث في جذور تشكُّل بعض المفاهيم والنماذج النظرية في الفكر الغربي الحديث، وتتبع تحولاتها منذ عصر النهضة، قام ابن خلدون أيضاً بالبحث في كيفية تكوُّن الدول ونموها ونضجها حتى انهيارها، وذلك بالنبش والتنقيب في كل ما وصل إليه آنذاك من معطيات تاريخية. هذا إضافة إلى أنّ المفكرين معاً اعتبرا المجتمع مبنياً على الصراع وقارباه على أساس علاقات القوة، انطلاقاً من أن كل مجتمع هو بالضرورة مجموعة من القوى المتصارعة.
    هناك طبعاً ندوات أخرى عدة انبرت لتمجيد صاحب «المقدمة»، موضحةًَ أن «العلّامة» كان ماركسياً قبل ماركس، ووضعياً قبل أوغست كونت... وأنه سبق دوركهايم إلى وضع أسس السوسيولوجيا. بل هناك من أعلن الرجل «مؤسساً لكل العلوم الاجتماعية الحديثة التي تبلورت في أوروبا انطلاقاً من القرن التاسع عشر»! أما الذين دعوا إلى التعامل مع صاحب المقدمة «برؤية نقدية لا تكتفي بتمجيده»، فإن بعضهم سيقرأ ابن خلدون بكثير من التعسّف. هكذا وصف المفكر السوري طيب تيزيني المشروع الخلدوني في ندوة «ابن خلدون ووحدة المعرفة» التي نظّمها «المجلس الأعلى للثقافة» في القاهرة، بمشاركة أكثر من خمسين باحثاً، بأنّه «مشروع سلفي ماضوي نكوصي» قبل أن يتهم العلّامة بـ«الانتهازية السياسية». فيما انبرى بنسالم حميش، إلى تصحيح عدد من «أخطاء» صاحب «كتاب العبر» في مجال البحث التاريخي. كما «عاتبه» على أنّه كان مُقلّاً في «البوح والاعتراف» في سيرته الذاتية، مقابل استرساله في الحديث عن الآخرين.
    طبعاً، لا يمكن لعاقل اليوم أن ينادي «بتطبيق منهج ابن خلدون النظري على الواقع المعاصر»، إن مقاربة واقعنا الفكري والسياسي بأدوات القرن الرابع عشر ضرب من العته. لكن في المقابل، أليس من التعسف أن نخرج ابن خلدون من قبره لنزجّ به في معارك لا تعنيه؟ ونحاصره باتهامات ما كانت لتخطر في بال علماء عصره؟ نحن في أمسّ الحاجة إلى قراءة ابن خلدون، أو إعادة قراءته، إنما في سياقه. وعوض أن نُزايد عليه بالاتهامات، يُفترض أن نتجاوزه عبر تملُّك فكره أولاً، ثم التماهي معه إلى حد التنكّر له، وذلك من خلال توليد أسئلة فكرية جديدة ومغايرة لأسئلته. إننا نحتاج اليوم إلى ما سماه عبد السلام بنعبد العالي «خلدونية مُضادة». وهي خلدونية تحتاج إلى دينامية فكرية خلّاقة، لا إلى سجالات تنابُذية واحتفاليات رسمية تغذّيها النزعات القطرية الضيقة.