strong>عثمان تزغارت
العـــراق وفلسطيـــن ودارفـــور علـــى شاشـــات العالـــم

«مهرجان تورنتو السينمائي» في كندا، هو المحطّة الأخيرة قبل جوائز الأوسكار. لم تكتف دورته الأخيرة باحتضان الأفلام التي برزت هذا العام في المهرجانات الكبرى من «كان» إلى «البندقيّة» مروراً بـ «برلين»، بل تعدّت ذلك إلى تقديم أعمال جديدة ومميّزة... وقد لفت الأنظار، هذه المرّة أيضاً، الحضور الطاغي للعالم العربي من خلال قضاياه الساخنة ومآسيه وحروبه...


عندما تأسّس «مهرجان تورنتو السينمائي الدولي» عام 1976، أُريد له في الاصل أن يكون مجرد محصلة تُستعاد من خلالها كل موسم أبرز الأفلام التي شاركت في المهرجانات السينمائية الكبرى عبر العالم. هكذا باتت تورنتو الكندية بمثابة المحطّة الأخيرة قبل بدء السباق النهائي نحو جوائز الأوسكار. الا أنّ هذا المهرجان تحوّل تدريجاً إلى موعد سينمائي بارز ومستقلّ بذاته، وصار معظم النقاد يراه أحد أبرز أربعة مهرجانات دولية، إلى جانب «كان» و«البندقية» و«برلين». ويأتي «تورنتو» في المرتبة الثانية بعد «كان»، من حيث قدرته على استقطاب النجوم، وحجم سوق الإنتاج والتوزيع التي تنعقد على هامشه وفي كواليسه.
الدورة الـ 32 من المهرجان التي اختتمت أخيراً، احتضنت ما لا يقل عن 324 فيلماً. لكنّ القضايا أو بالأحرى المآسي العربية، من العراق إلى فلسطين مروراً بدارفور، احتلّت موقع الصدارة بين الأفلام المشاركة، وهو ما يعني أنها ستغزو شاشات العالم، بشكل غير مسبوق، حين ستجد طريقها إلى صالات العرض خلال الموسم المقبل.
حرب العراق كانت الموضوع المركزي للمهرجان، عبر خمسة أفلام لمخرجين من أميركا، كندا وبريطانيا. في مقدّم هذه الأفلام، يأتي عملان سبق عرضهما في «مهرجان البندقية الأخير» هما Redacted للأميركي بريان دي بالما الذي أحرز «الأسد الفضي»، و«في وادي الإله» للكندي بول هاغيس (راجع «الأخبار»، عدد الاثنين 3 أيلول/ سبتمبر 2007). أما الأفلام الثلاثة الباقية، فقُدّم عرضها العالمي الأول في تورنتو. وأهم ما يجمع بينها الاستفادة من اللغة التسجيليّة (بالمقارنة مع الروائيّة)، وأسلوب محاكاة الأفلام التوثيقية الذي يبدو أنه سيكون إحدى السمات أو التوجهات الرئيسة للموسم السينمائي الحالي.
في «معركة حديثة» Battle For Haditha، يتناول البريطاني نيك برومفيلد إحدى أبشع المجازر التي ارتكبها جنود أميركيون في العراق. إذ قتلوا 24 مدنياً من سكّان بلدة حديثة، انتقاماً لمقتل أحد رفاقهم المارينز في انفجار عبوة قرب البلدة. في البداية، تم التستّر على هذه المجزرة التي وقعت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005. يومها، ادّعت القيادة العسكرية الأميركية أنّ هؤلاء المدنيين قُتلوا في انفجار قنبلة. ولم تُكشف الحقيقة إلا في كانون الثاني (يناير) 2006، بعدما استطاع أحد مراسلي مجلة «تايم» عبر شريط فيديو أن يثبت أنّ الضحايا من سكان حديثة قُتلوا رمياً بالرصاص.
وقد دفع برومفيلد هنا اللغة الوثائقيّة إلى حدودها القصوى. إذ اختار ممثلي شريطه جميعاً من المارينز الذين سبق أن حاربوا فعلياً في العراق، قبل أن يتحوّلوا لاحقاً بعد انتهاء خدمتهم إلى معارضين للحرب.
في «جسد الحرب» Body Of War، يقدّم الأميركي فيل دوناهيو (هو في الأصل وجه إعلامي ومقدّم برامج حواريّة تلفزيونية، يخوض هنا تجربته الأولى في الإخراج السينمائي) بالاشتراك مع هيلين سبيرو، قصةً مأساويةً أخرى مستوحاة من واقع الحرب في العراق. وهي قصة شاب أميركي يدعى توماس يونغ (25 سنة) تطوّع في صفوف المارينز بعد صدمة اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر)، أملاً أن تتاح له فرصة محاربة القاعدة في أفغانستان. وإذا به يجد نفسه، بعد ذلك بسنتين، مجنّداً في العراق، ليصاب بعد أقل من أسبوع من بدء الاحتلال برصاصة في العمود الفقري أصابته بالشلل. ويتحوّل بعد تسريحه من الجندية إلى داعية سلام، يجوب أميركا على كرسيه المتحرك داعياً إلى الانسحاب من العراق.
أما الكنديان سوروش آلفي وإيدي موريتي، فراهنا على المغايرة واختارا في فيلمهما «هافي ميتال في بغداد» (Heavy Metal In Bagdad) تناول موضوع الحرب في العراق من خلال قصة غريبة تتعلق بفرقة «هارد روك» عراقية وحيدة تألفت ـــــ وسط مصاعب جمّة ـــــ في عهد صدام حسين، قبل أن يضطر أفرادها للتشرد ثم المغادرة إلى المنفى بعد الاحتلال. هذه الفرقة الشبابية كانت تحمل تسمية Acrassicauda، وهي التسمية اللاتينية لـ «العقرب الأسود». وقد استوحى الشريط أحداثه من القصة الواقعية لأفرادها الذين فرّوا إلى سوريا بعد احتلال العراق، آملين أن يجدوا الخلاص في المنفى. لكنّ أحوالهم المعيشية هناك ازدادت تأزماً، وأدّت في النهاية الى انفراط عقد الفرقة، بعدما اضطر أفرادها لبيع آلاتهم الموسيقية.
القضية الفلسطينية سجّلت بدورها حضوراً قوياً في تورنتو من خلال شريط توثيقي بعنوان «رجل قادم من السهول» Man From Plains للأميركي جوناثان ديمي (مخرج «صمت الحملان»). وقد صاحبت كاميرا ديمي الرئيس الأسبق جيمي كارتر خلال الجولة المطوّلة التي قام بها العام الماضي، عبر مختلف مدن الولايات المتحدة للدفاع عن كتابه «فلسطين: السلم لا الأبارتيد» Palestine: Peace not Apartheid) الذي أثار زوابع في أميركا، وكثيراً من الجدل، وقوبل بكثير من الانتقاد والتهجّم من اللوبيات الصهيونية، حتى داخل الحزب الديموقراطي الذي ينتمي إليه كارتر. وقد جاء الرئيس الأميركي السابق شخصياً إلى مهرجان تورنتو، برفقة زوجته روزالين التي تشاركه في إدارة مؤسسة سلام تحمل اسميهما، للدفاع عن هذا الفيلم وعن حقوق الشعب الفلسطيني في مواجهة نظام التمييز العنصري الإسرائيلي.
أما مشكلة دارفور، فكانت موضوع فيلم توثيقي أميركي آخر من إخراج تيد برون، تحت عنوان «دارفور الآن». وقد تجنّدت كوكبة بارزة من نجوم هوليوود، يتقدّمهم جورج كلوني ومات ديمون ودون شيدل لدعم هذا الشريط الذي يثمّن مساعي الغوث الإنساني للنازحين المهجّرين في دارفور.
وقد كان للعرب أيضاً حضور آخر ـــــ كنّا نتمنى الاستغناء عنه ـــــ في فيلم «تمزّق» (Rendition) من إخراج الجنوب إفريقي غيفن هوود. والشريط هو مرافعة ضدّ التضييق على الحريات في الولايات المتحدة بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر). أما الدور العربي الأكثر سلبيةً في هذا الفيلم، فلا يتمثل في تفجير برجي مركز التجارة العالمي، على رغم بشاعة تلك الهجمات. ففي خضم الحرب العالمية المعلنة من الإدارة الأميركية على الإرهاب، تلجأ مديرة «سي ـــــ آي ـــــ إيه» (ميريل ستريب) إلى الاستعانة بالباع العربي الطويل في مجال تعذيب المساجين واستنطاقهم، فتقوم بتصدير المعتقلين المتهمين بالإرهاب... نحو مخافر أجهزة المخابرات العربية!