strong> خليل صويلح
  • «الرجال الجوف» أفلتوا من مدافنهم بلا رؤوس


  • نشأ النحّات السوري قرب أوغاريت... وبقي مسكوناً بألغاز التاريخ، وهاجس العلاقة بين المادة والخلود. على امتداد ربع قرن، حمل تمائمه ومضى في رحلة فريدة تمزج بين الواقع والأسطورة. الجمهور يعيد اكتشافه في غاليري «آرت هاوس» الدمشقية

    تجربة مصطفى علي، تنطوي على مقترح جديد في محترف النحت السوري. يتراءى لنا هذا النحات البارز مديراً ظهره ـــــ خارجياً على الأقل ـــــ لمنجز هذا المحترف، لكننا نراه يوصل، في الوقت نفسه، ما انقطع من تراث النحت السوري في أصوله الأولى. وإذا بمنحوتاته عبر مراحل تجربته الاستثنائية، تبدو كما لو أنها مصنوعة بإزميل نحات فينيقي من أجداده في الساحل السوري. وهو يستعير رموزه وتمائمه ورقاه ومعادنه في أشكال نحتية مبهرة، تمزج الوقائعي بالأسطوري. هكذا، اشتغل فترةً طويلةً على معالجة البرونز في منحوتات صغيرة، تستدعي تاريخ إنسان المتوسط بأساطيره ورموزه التي تمتد إلى حضارة بلاد الرافدين في حوار عميق، تكتنفه أبعاد فلسفية ومعرفية، كما تستكشف سرّ المعدن وتشكّلاته في إتقانات متنوعة.
    في معرضه الجديد في صالة «آرت هاوس» الدمشقية، يقتحم مصطفى علي منطقة نحتية مختلفة، سواء لجهة المادة المستخدمة أو لجهة أحجام المنحوتات. يتراجع هنا البرونز جزئياً لمصلحة الخشب في صروح نحتية ضخمة، تستعير من الطبيعة أشكالها الفطرية الأولى: بقايا الأشجار الهرمة تتحوّل بلمسة ما إلى جسد امرأة مستلقية، أو سمكة أو تابوت... من دون أن يغيب عنها المنحى الوظيفي والجمالي للمنحوتة، وهي تأخذ مكانها في الفراغ، فتكتنز بحشد من الإشارات والإحالات الميثيولوجية، كما تفصح عن مأساة دفينة في عروقها.
    في الكتل الخشبية الضخمة، ينحشر كائن في الفراغات والأخاديد، بحثاً عن حنان مفتقد أو ملاذ يحمي روحه من الفناء بما يشبه طقوس الإنسان القديم.
    في حوار الخشب والحديد والبرونز، تنبثق معطيات تعبيرية تحيل على معنى الموت والخصوبة، الظل والنور، الصمت والصراخ، في رسائل وشيفرات تستمدّ حضورها من الذاكرة الجمعية من خلال ثنائيات متناقضة، يتواشج فيها الشكل الآدمي مع الشكل الحيواني. ما يمنح المنحوتة شحنة وجدانية لا تحتمل الحياد.
    خلال ربع قرن هي تاريخ تجربته النحتية، خضعت تماثيل مصطفى علي لاختبارات ومراجعات في أساليب العمل والأفكار والرؤى الجمالية: من المنحوتة البرونزية الصغيرة التي تحيل بشكل ما إلى أعمال جياكوميتي، عبر مزج الرمز المحلي في البعد التعبيري للأشكال الشهيرة الممطوطة كما عهدناها لدى النحات الفرنسي الكبير، إلى التوابيت التدمرية التي تضغط على كائناته المستلقية، أو المكورة، في حيزها المغلق. ذلك أنّ رحابة المنحوتة من الخارج تضيء عتمة الداخل ومراياه المبهمة بأقصى حالات الاختزال.
    كائنات مصطفى علي تتوق إلى الطيران والتحليق عالياً على عكس قانون الجاذبية. كما أنّها تتحدى قوانين التوازن، كأنها على حافة هاوية، تنتظرها عند أقل حركة غير محسوبة. هذا التناغم بين الحركة والصمت، هما ما يميّز عمل هذا النحات، ويمنح أشكاله مرجعياتها المحلية. لكن علي لا يراوح مكانه طويلاً، فهو نحات قلق ومغامر في آن واحد. وعلى رغم أنّ منحوتاته البرونزية تلقى احتفاء خاصاً، إلا أنّه غادر هذه المنطقة لاكتشاف روح الخشب والتحاور مع خشونته باختزال يعطي الكتلة أبعادها ورمزيتها.
    قبل ذلك، وجد في قصيدة ت.س. اليوت «الرجال الجوف» مبتغاه في مراودة المفردة الشعرية، فجاءت الكتل جوفاء بأشكال متجاورة، محشوة بالفراغ أو العدم. مطلع القصيدة الذي يقول «نحن الرجال الجوف. نحن الرجال المحشوون، يسند بعضنا بعضاً. عقل مليء بالقش وشكل بلا هوية»... هذا المطلع يتحوّل لدى مصطفى علي إلى حشد من الرجال مقطوعي الرؤوس. وفي أحيان أخرى، من دون أطراف، بخطوات مرتبكة تنبئ بكارثة أو مأساة على وشك أن تقع.
    ولد مصطفى علي في الساحل السوري (1956)، على مقربة من موقع أوغاريت. هناك كان التاريخ لغزاً، وكانت الحجارة تدفن مع أسرارها، على مقربة من هدير أمواج المتوسط. يقول موضحاً: «في طفولتي، كنت أذهب على دراجة هوائية إلى رأس شمرا، مكان اكتشاف أول أبجدية في التاريخ. أدور حول التل الأثري وأتأمل المدافن القديمة والحجارة. كنت أحس أن رأسي يضج بأرواح أسلافي، وربما لهذا السبب قررت أن أكون نحاتاً».
    دراسته النحت في أكاديمية الفنون في «كرارا» الإيطالية (1996)، منجم رخام المثّالين الإيطاليين، فتحت عينيه على قوة الرمز، وكثافة الإشارة، ومغزى تحوير الأشكال. لكن اكتشافه المدافن التدمرية وضعه على عتبة نحتية جديدة تنهل من مفهوم الموت والخلود إمكاناتها التعبيرية، في صروح أفقية وعمودية، تتخللها رموز قديمة في طبقات تنحو إلى سرد بصري يحاكي الأسطورة المحلية في معنى الأنوثة والذكورة، الدائرة والمستطيل، الوجود والفناء، الجسد والروح: «لقد سحرتني المدافن التدمرية بأبراجها العمودية التي تبدو كأنها معبر يصل بين الأرض والسماء، وهي بالنسبة إليّ ذاكرة متجددة».
    هذه الثنائيات هي جوهر منحوتات مصطفى علي، إضافة إلى مشاغله الجمالية على الكتلة، والتجريب المستمر والدؤوب لاكتشاف إمكانات جديدة في معالجة المادة. وإذا كانت منحوتاته البرونزية قد مثّلت هويته الأولى لدى المتلقي في أشكال أقرب إلى الأسلبة، فإن معرضه الجديد يذهب إلى تطلعات أخرى أكثر احتداماً في مناوشتها للكتلة والفراغ والضوء. الخشب هنا يختلط بمسامير ضخمة، في نوع من الإدانة الصريحة للاعتداء على الطبيعة: جثث متفحمة داخل نعوش، ومربع صغير يغطي الخشب المنخور، وأيقونة داخل أخدود. هكذا يحرّر مصطفى علي نصه من الثبات بالحدس في أشكال صادمة. في منحوتة عمودية بطوابق متتالية، يحشر الفنان عشرات الوجوه في وضعيات مختلفة. وجوه مأساوية «كما لو أنها تتطلع إلى الأبدية»، وهي تنتظر قدرها المحتوم وتستبق مصائرها في العالم الآخر.
    أشكال حيوية لا تخلو من أسى، تطل من نوافذ مدافنها، أو تستلقي بليونة على الأرض، أو تكتب ذاكرتها على جدار مسلة، تلك هي أمثولة مصطفى علي ومراياه المنهوبة.