بيار أبي صعب
ماريا كالاس. صوتها تعرفه من بين ألف صوت. مكسور مثل حياتها التي ضيّعتها على أعرق مسارح العالم. صوت يصفعك بزخمه وقدرته على التلوّن والتغيّر والانتقال بين الطبقات، قويّ في شوائبه أيضاً. وحياة تأثرك بجراحها ومحطاتها التراجيديّة التي تليق بمطربة أوبرالية.
سيسيليا صوفيا آنا ماريا كالوجيروبولوس، المولودة في عائلة يونانية مهاجرة في نيويورك ذات يوم من شتاء 1923، كانت تفتقر إلى الجمال والأنوثة في نظر أمّها التي رذلتها في إحدى زوايا البيت... إلى أن اكتشفت صوتها، فألزمتها بإيقاع صارم من الدراسة والكد والتمرين، علّ ماريا الصغيرة تنجح حيث فشلت أمّها. وبالفعل سيتحوّل هذا الصوت لاحقاً أداة انتقام هائلة: غنّت كأنها تثأر من العالم. من خلال الأوبرا اخترعت وجوداً خاصاً، يرتقي بها الى الجمال المطلق والمشاعر المجرّدة. هكذا باتت الـ Diva بامتياز، الـ «بريما دونا» التي تركت بصماتها على فنّ الأوبرا، وسكنت وجدان أجيال متعاقبة ما زالت تتداول تسجيلاتها إلى اليوم. ثلاثون عاماً على رحيلها، ذات يوم من أيلول (سبتمبر) 1977 في عزلة شقتها الباريسية ـــ حيث غرقت تدريجاً في الصمت، تحاول الشفاء من حبّ قديم. ها هو العالم بأسره يستعيد فنّ ماريا كالاس ويحتفي بها: من «لا سكالا» في ميلانو حيث خيّم طيفها طويلاً... إلى «قصر غارنييه» في باريس، مروراً بمحطات فضائية في متناول المشاهد اللبناني والعربي مثل Mezzo وarte وغيرهما...
«اليونانيّة» المسكونة برغبة الغناء، بشهيّة موسيقيّة خارجة على المألوف، المطربة الإسبانيّة إلفيرا دي هيدالغو أرشدتها إلى متاهات الـ bel canto. وإضافة إلى الخامة الصوتية الخاصة، تجلّت ماريا كالاس بموهبتها التراجيديّة. صديقها السينمائي الإيطالي لوتشينو فيسكونتي، رأى فيها أكبر تراجيديات عصرها. كانت تتغلغل في أعماق بطلتها، ترصد مشاعرها بين حبّ ولوعة وخيانة وانتقام، تتقمّصها وتجعلها كائناً من لحم ودم:توسكا، فيوليتا، نورما، «ميديا»... كل شخصيّة كانت ذريعة كي تبوح كالاس بحقيقتها الدفينة.
لا يمكن استعادة حياة ماريا كالاس من دون ملاحظة ذلك التشابه المدهش الذي كُتب عنه الكثير، بين بطلاتها وحياتها. من باتيستا منيغيني الذي حوّلها بضاعة تباع وتشرى في بورصات الأوبرا، إلى مواطنها أوناسيس الذي ظنت لوهلة أنها اهتدت بين ذراعيه الى واحة الأمان، فإذا به يفضّل عليها جاكي كنيدي. تماماً مثل جيوكوندا في أوبرا روسيني، مغنية الشارع التي هجرها حبيبها البحّار إلى فراش زوجة أحد الأثرياء. صارت المطربة تقلّد بطلاتها بين نبل وانكسار، تمرّد وهشاشة، حتى انطفائها عن 54 عاماً وحيدة مثل فيوليتا بطلة فيردي وقد احترقت بنار الحب. لكنّ كالاس هنا، تصدح من جهاز السي دي القريب... حاضرة أكثر من قريناتها ريجين كريسبان، مونسيرا كاباليه وريناتا تيبالدي. نسمعها تقول: «أنا ابنة القدر، استولى عليّ ورسم لي الطريق. لست ملك نفسي، بل أنا شاهد خارجيّ على حياتي».