بشير صفير
يحتفل العالم هذه الايام بالذكرى الثلاثين لرحيل مغنية الأوبرا الشهيرة. صوتها يعرفه المستمع العادي، مثلما يدمنه الذواقة في العالم أجمع. ما سرّ خلود هذه المرأة التي تماهت حياتها مع أدوارها، وصار اسمها مرادفاً لفنّ الأوبرا؟

في ذكراها الثلاثين تعود ماريا كالاس إلى الواجهة بقوّة... لكن هل غادرت يوماً تلك الواجهة؟ ثلاثة عقود مرت على غياب الديفا (1923 ـــــ 1977). الا أنّ صوتها بقي حاضراً بشكل مدهش! إنّها بين هؤلاء الكبار الذين يتماهى إبداعهم مع فنّهم. نقول موزار بدل الموسيقى، أو نورييف بدل الرقص. وفي مجال الأداء في عالم الموسيقى الكلاسيكية، كارايان بدل قيادة الأوركسترا، وغلن غولد بدل البيانو، وكالاس بدل الأوبرا... من دون منازع! والدليل أن هؤلاء المبدعين، ما زالوا، سنوات بعد رحيلهم، مناجم ذهب لأهم ثلاث شركات عالمية تنتج الموسيقى الكلاسيكية: «دويتشه غراموفون» و«سوني» وEMI التي أعادت للمناسبة اصدار الأعمال الكاملة لكالاس في ستين أسطوانة رقميّة.
عاشت ماريا كالاس حياةً صاخبةً على المستويين الفنّي والشخصي، وأسالت حياتها حبراً كثيراً، من نشأتها الى حياتها العاطفية، خصوصاً علاقتها بالملياردير اليوناني أوناسيس التي دامت عشر سنوات من الجنون، وصولاً الى مرضها وموتها. حينها، قال كثيرون إنّه نجمَ عن محاولة انتحار «ناجحة» تناولت فيها كالاس كميات كبيرة من أقراص الحبوب المنوّمة.
ولدت ماريا كالاس عام 1923 في الولايات المتحدة لأبوين يونانيّين. درست العزف على البيانو وأصول الغناء وبدأت مسيرتها الفنية في أواخر الثلاثينيات، فبلغت ذروة عطائها في الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات... وذلك في عالم الأوبرا دون سواه! لقد ابتعدت عن عوالم أخرى في الموسيقى الكلاسيكية يدخل الغناء في أساسها. ونشير هنا الى الأعمال الغنائية المهمة في التاريخ التي لم تدخل ضمن اهتمام كالاس مثل الأغنيات التي راجت أواخر القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر، إضافة إلى الأعمال الدينية مثل القداديس الاحتفالية والجنازات وغيرها (منها جنازة الموتى لموزار أو فيردي). وأسقطت من اهتمامها ـــــ لسوء الحظ ـــــ السمفونية التاسعة لبيتهوفن التي يدخل الغناء استثناءً في حركتها الرابعة (نشيد للفرح). والسبب يعود هنا الى فن آخر تتقن كالاس لعبته، ولا يدخل في هذه الأشكال الموسيقية، وهو محصور في فنّ الأوبرا في عالم الموسيقى، أي التمثيل.
الى جانب صوتها العظيم، كانت كالاس تضفي على أدائها التعبير الداعم للكلمة والموسيقى من خلال التمثيل. ولهذا السبب، تؤلّف التسجيلات الحيّة الجزء الأهم (مقابل تسجيلات الاستوديو للأعمال نفسها)، في «الديسكوغرافيا» التي تركتها أيقونة فنّ الأوبرا. وهذه الميزة في مسيرة كالاس الفنية دفعت مجلة «ديابازون» الفرنسية المتخصصة في الموسيقى الى مفاجأة قرائها الذين لا يقلّون اختصاصاً بالموسيقى الكلاسيكية عن محرّريها، من خلال الاعلان في عدد نيسان (ابريل) 2006 عن اصدار نادر يجمع كالاس (غناء) وغلن غولد (بيانو) في أداء سلسلة الأغنيات الشهيرة «رحلة شتاء» لشوبرت... لتعود وتشير إلى أنها كانت «كذبة أول نيسان» في العدد التالي! لكن ما الذي يميز صوت كالاس؟ تُقسم الأصوات النسائية الى قسمين أساسيين: العالي أو الرفيع ويسمّى سوبرانو، والمنخفض أو الجهور ويسمّى ميزو ـــــ سوبرانو (أو ألتو بفارق بسيط). والسوبرانو نفسه يُقسم الى أقسام عدّة أبرزها السوبرانو الخفيف أو التلويني، وهو عام وثاقب وقادر على أداء الألحان التي تحتوي على نوتات عالية وتلوينها. السوبرانو الغنائي (الأكثر شيوعاً) وهو دافئ ومعبّر، وأيضاً متوسط من حيث المساحة والخفة. والسوبرانو الدرامي وهو قاتم جداً، خاصة في الطبقات المنخفضة حيث يقترب في التعبير من الميزو ـــــ سوبرانو، لكنّه ثقيل وبالتالي لا يسمح بالمهارات التلوينية. من هنا، تأتي ميزة كالاس التي كان صوتها سوبرانو ـــــ درامياً يتمتع بقدرة عالية على التلوين وأداء المهارات الصوتية. هكذا، استطاعت أداء أدوار أوبرالية تؤديها عادةً المغنيات اللواتي يتمتّعن بصوت سوبرانو خفيف أو غنائي.
اشتهرت كالاس بكثير من الأدوار وخصوصاً للمؤلفين الايطاليين الذين ختموا فنّ الـ«بل كانتو» (Bel canto) في القرن التاسع عشر، مثل «نورما» لبلّيني و«توسكا» و«مدام باترفلاي» لبوتشيني و«عايدة» و«ماكبث»، إضافة إلى «لاترافياتا» و«حفلة تنكرية» لفيردي (أخرجهما للأوبرا السينمائي الايطالي الشهير لوتشينو فيسكونتي)، وغيرها. كذلك أدّت بالفرنسية «كارمن» رائعة المؤلف الفرنسي جورج بيزيه، وبالألمانية «تريستان وإيزولد»، و«دي فالكوره» و«بارسيفال» لفاغنر... إضافة الى أعمال أخرى من العصر الكلاسيكي (القرن الثامن عشر) وصولاً إلى القرن العشرين. أما الدور الأهم الذي لم تؤدّه الـ «ديفا» الكبيرة، فهو «ملكة الليل» في أوبرا «الفلوت السحري» لموزار. ولو أنّها فعلت، لأحدثت زلزالاً في العالم. إذ إنّ ما كتبه موزار من ألحان لهذه الشخصية الأساسية، مفصّل بأدقّ خيوطه على قياس الاستثناء الصوتي الذي يتمثل بالسوبرانو الدرامي الماهر والقادر على التلوين... سامحك الله يا ماريا!