strong> عثمان تزغارت
  • فيلم «إنسحاب» أو حين يتحوّل الجلّاد إلى ضحيّة


  • في مرحلته الأولى، اعتُبر مخرجاً مؤيداً للقضيّة الفلسطينية. ثم اكتشف العرب تجارب أكثر راديكاليّة في اسرائيل، ومضى صاحب «البيت» و«يوميّات حملة عسكريّة» على دروب التكريس، فتغيّرت رؤياه ولان خطابه، من دون أن يزول نقده لبعض الظواهر المتطرفة في بلاده. اليوم، يعتبره ميشيل خليفي «مناضلاً صهيونياً»، فيما يواجه فيلمه الجديد «انسحاب» حملة مكارثيّة في اسرائيل. ما الحكاية مع عمّوس جيتاي؟


    في الثامنة والخمسين، يقف الإسرائيلي عمّوس جيتاي عند مفترق طرق حرج. فيلمه الأخير «انسحاب» الذي عُرض أخيراً خلال افتتاح مهرجان حيفا السينمائي ــــ بعدما قُدّم في مهرجاني «البندقية» و«تورنتو» ــــ أثار موجة من الجدل بعدما انكبّ عليه غضب المؤسسة الثقافية الرسمية في اسرائيل، وذهبت الانتقادات الى التشكيك في مواطنيّته والاعتراض على تصنيفه «سينمائياً إسرائيلياً»!
    من جهة أخرى، يواجه جيتاي انتقادات عكسية من محبي سينماه الذين يعيبون على أفلام مرحلته الأخيرة منذ «كيبور» (2000)، تراجع تلك النبرة النضالية التي اتسم بها في شبابه وصنعت شهرته كأبرز «السينمائيين الجدد» الإسرائيليين المعادين للصهيونية. من «كيدما» (2002) إلى «عليلة» (2003)، ومن «منطقة حرة» (2004) إلى «أرض الميعاد» (2005)، انساق جيتاي تدريجياً إلى أسلوب رمزي يغلّف الهمّ السياسي العام في قصص شخصية أو ظواهر اجتماعية فاقعة. ما جعل نبرة انتقاده للإشكاليات الفكرية التي يواجهها المجتمع الإسرائيلي، كالاحتلال والصهيونية والتطرف الديني، تتراجع لحساب نظرية نسبية للأمور... رأى فيها رفاقه نوعاً من «التسووية». حتى أنّ صديقه ــــ السابق ــــ السينمائي الفلسطيني ميشيل خليفي اتّهمه في برنامج تلفزيوني على هامش مهرجان «كان» الأخير، بأنّه «مناضل صهيوني»، ما اعتبره جيتاي «شتيمة» فغادر بلاتوه البرنامج احتجاجاً!
    لكنّ جيتاي (1950) يؤكد أنه لم يبدّل أفكاره: «رغم المكارثية الذي اتسمت به الحملة الأخيرة المشكّكة في جنسيتي الإسرائيلية، أنا سعيد بأن أكتشف أنني ما زلت أحظى بالقدر ذاته من الكراهية من هؤلاء الذين لم أحبّهم يوماً، ولم يحبوني، في إسرائيل. وفي مقدّمهم رئيس الحكومة الحالي إيهود أولمرت الذي يكنّ لي كراهية مذ رفضتُ مصافحته عام 1993 أيام كان رئيس بلدية القدس».
    قد لا يكون «انسحاب» أكثر أفلام جيتاي صِدامية مع الخطاب الرسمي الاسرائيلي، وهو يأتي ليختم «ثلاثية عابرة للحدود»، بدأها بـ«منطقة حرة» ثم «أرض الميعاد». وهي أفلام أقرب إلى مدرسة «الواقعية الإيرانية» تحمل الكثير من بصمات المعلم الكبير عباس كياروستامي. استند غيتاي إلى أبحاث ميدانية أشبه بالتحقيقات التوثيقية التي تسمح له برصد ظواهر من الواقع المعيش. لكنّه راح يستعيدها في قالب روائي.
    في «منطقة حرة» يتناول جيتاي ــــ من خلال مسار ثلاث نساء: إسرائيلية، فلسطينية وأميركية، مصممات على تولي زمام حياتهن ــــ ظاهرة تهريب السيارات المصفّحة الإسرائيلية الصنع إلى المنطقة التجارية الحرّة في الأردن، لتسويقها عبر وسطاء عرب لحساب شخصيات سياسية في عراق صدام حسين والسعودية وسوريا. أما في «أرض الميعاد»، فيرصد بسخرية لاذعة ظاهرة الاتجار بالرقيق بين مصر وإسرائيل عبر معبر رفح، ضمن شبكات دعارة مزدوجة الجنسية، إسرائيلية وفلسطينية. وها هو يستكمل الثلاثية بـ«انسحاب» الذي يصوّر اللحظة المفصلية المتمثلة في ترحيل المستوطنين الإسرائيليين من غزة بالقوة، إثر الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب في 2005، ليحل محلّهم أبناء الأرض الأصليّون من فلسطينيي غزة... وينطلق جيتاي من ذلك المشهد الاستثنائي الذي انقلب خلاله المستوطن الإسرائيلي المحتلّ إلى لاجئ مهجّر بالقوة، لمخاطبة الضمير الإسرائيلي ولفت انتباهه إلى معاناة الفلسطينيين من التهجير والاحتلال منذ نصف قرن.
    يعالج جيتاي موضوعه هنا بأسلوب فيه الكثير من التورية والرمزية، من خلال قصة مثقفة فرنسية، يهودية الأصل، تدعى آنا (جولييت بينوش) تلتقي لأول مرة منذ غادرت إسرائيل قبل عشرين عاماً، أخيها غير الشقيق يولي (ليرون ليفو) الذي يأتي لحضور جنازة والدهما في أفينيون جنوب فرنسا. وإذا بهما يكتشفان أن والدهما أوصى بكل ثروته لحفيدته دانا، ابنة آنا التي هجرتها حين غادرت إسرائيل. هكذا، ينطلقان في رحلة طويلة بحثاً عن دانا. لكنّ وصولهما إلى مكان إقامتها في غزة يتزامن مع ترحيل المستوطنين من هناك بالقوة. هكذا تتقاطع الهموم الخاصة مع اللحظة السياسية العامة التي تشهد أحداثاً تاريخيّة مهمّة..
    في الظاهر، يبدو خطاب الفيلم غير صدامي إذا ما قُورن بأعمال جيتاي النضالية مثل «يوميات حملة عسكريّة» الذي يدين الأيديولوجيا العسكريّة الإسرائيليّة وصوّر في الأراضي المحتلّة خلال اجتياح لبنان (١٩٨٢) وقد اضطُرّ جيتاي بسببه للمغادرة إلى المنفى الباريسي بعد تهديدات بالقتل تلقاها من متطرفين إسرائيليين... وصولاً إلى «برلين ــــ القدس» (1989) الذي يفضح التوظيف الصهيوني المغرض للمحرقة النازية.
    لكنّ «انسحاب» يضع الإصبع على جرح غائر في الضمير الجمعي الإسرائيلي: ماذا لو تسبّب التمادي في الظلم والاعتداء بقلب جدلية الجلاد والضحية، ليتحوّل المحتل الإسرائيلي المتعجرف اليوم إلى مهجّر مطارد غداً؟ وكان جيتاي تناول الإشكاليّة مقلوبة في فيلم «إستير» الذي يستعير الشخصيّة التوراتيّة الشهيرة، ليحكي عن الضحيّة وقد تحوّلت إلى جلّاد.
    واجه المخرج عقبات كثيرة خلال إنجاز الفيلم، بدءاً من سرقة كومبيوتره الذي كان سيناريو الفيلم مخزّناً عليه، وصولاً إلى مشكلات أثناء التصوير. إذ وقعت صدامات مع مستوطنين متطرفين مرحّلين من غزة، حاولوا منع جيتاي من التصوير قرب مستوطنة «نيزانيم» التي نُقلوا إليها بعد الانسحاب، معترضين على قيام «يساري متطرف» مثل جيتاي بتناول “قضيّتهم”.
    أما الضجة الأكبر فتزامنت مع العرض العالمي الأول للفيلم في مهرجان «البندقية» مطلع الشهر الماضي. إذ أعلنت لجنة تمويل الأفلام في التلفزيون الحكومي الإسرائيلي عن سحب التمويل (200 ألف دولار) الذي تعهّدت بمنحه سابقاً للفيلم. وبرّرت قرارها بأنّ «غياتي ليس سينمائياً إسرائيلياً» و«لا يقيم في إسرائيل، ولا يصوّر أفلامه فيها»! علماً بأن جيتاي إسرائيلي من مواليد حيفا، لجأ إلى فرنسا بين 1983 و1993 بسبب تهديدات المتطرفين. وبعد تولي رابين الحكم وتوقيع اتفاقيات أوسلو، عاد ليستقر مجدداً في مسقط رأسه. وأفلامه كلّها مصوّرة في إسرائيل، كلياً أو جزئياً، بما فيها «انسحاب» الذي صُورّت مشاهده ــــ وتدور أحداثه في غزة ــــ في مستوطنات قرب الخليل. بينما صُوّرت بقية الأحداث الأوروبية في فرنسا وألمانيا. أما «وكالة الأنباء الإسرائيلية» فاعترفت أنّ الحجج التي قدّمها التلفزيون الإسرائيلي لسحب التمويل من جيتاي واهية، وأكّدت أنّ الدافع الرئيسي هو «معاقبة» هذا السينمائي على انتقاداته السياسية لإسرائيل.