strong>عثمان تزغارت
بموازاة ثلاثيته الروائية «العابرة للحدود» (راجع المقال أعلاه)، استكمل عمّوس جيتاي أخيراً ثلاثية وثائقيّة تأتي امتداداً لشريطه الأول والأشهر «بيت» (1980) الذي أرّخ مأساة تهجير الشعب الفلسطيني بعد قيام إسرائيل. تناول الشريط قصّة بيت عربي عتيق في القدس الغربية، يُرغم صاحبه الفلسطيني على مغادرته بعد قيام إسرائيل، ثم يصنّف مُلكاً شاغراً من الإدارة الإسرائيلية، تمهيداً لانتقال ملكيته لوافدين إسرائيليين... يستقدمون عمّالاً فلسطينيين لترميمه!
عُدّ الشريط يومها مرافعةً أولى من نوعها في السينما الإسرائيلية في تأييد حقوق الشعب الفلسطيني، وتصوير مآسيه منذ النكبة. إذ ابتكر جيتاي قالباً رمزياً أخّاذاً للتعبير عن تلك المأساة، من خلال قصة ذلك البيت العتيق الذي ستتداول تنازع ملكيته ثلاثة أجيال من المهجَّرين (الفلسطينيين) والمحتلِّين (الإسرائيليين).
في عام 1998 بعد النجاح العالمي الذي حقّقه فيلمه «يوم.. يوم»، عاد جيتاي إلى قصة البيت المقدسي. هكذا، صوّر شريطاً وثائقياً ثانياً بعنوان «بيت في القدس» تتبّع عبره تطوّر الصراع على ملكية البيت، في «صورة مقرّبة» لتطوّر الصراع الفلسطيني ــــــ الإسرائيلي.
وبعدما أنهى «أرض المعياد» وقبل أن يشرع في تصوير «انسحاب» العام الماضي، قرّر أن يعرّج مجدداً على البيت المقدسي نفسه، لينهي ثلاثيته التوثيقية عنه بشريط «أخبار عن البيت» عُرض في «مهرجان برلين» الأخير.
لكن ما الذي اجتذب غيتاي مجدّداً إلى ذاك البيت؟ يقول: «عبر تتبّع قصة هذا البيت في مختلف المراحل منذ 1948، قمت بما يشبه ورشة أركيولوجية. لكنّ الفرق أنّ شخوصها أحياء يتحركون في التاريخ الراهن، بدل أن يكونوا مجرد عظام نستدل بها على ملامح تاريخ قديم. أرى أنّ من واجبي الأول بصفتي سينمائياً إسرائيلياً، العمل على دحض الأكاذيب التي تتردّد يومياً في نشرات الأخبار الإسرائيلية، ومقاومة الحملات الهادفة إلى تصوير الطرف الفلسطيني على شكل شيطان. وأنا أؤمن بأن أصل الشرّ في كل ما يحدث أو ما يمكن أن يحدث مستقبلاً، ناتج مما حدث عام 1948. وما دام المجتمع الإسرائيلي مستمراً في تمجيد الأساطير الصهيونية، فلا يمكن أن يقوم سلام حقيقي. لذا حاولت تفكيك تلك الأساطير من خلال قصة هذا البيت العتيق...». ويضيف جيتاي: «تسلّط هذه الثلاثية الضوء على مفارقة إشكالية في الفكر الإسرائيلي تعود إلى أنّ اللغة العبرية لا تكتنف صيغة الحاضر، بل هناك الماضي والمستقبل. وقد تسبّب ذلك بخلل فكري. من غير المعقول أن يعيش مجتمع من دون حاضر ويصرّ على الاتكاء فقط على الماضي الذي هو أسطورة، وعلى المستقبل الذي ليس سوى «يوتوبيا»!
هاجس جيتاي في تسليط الضوء على هذه الأسطورة، يتجلّى بوضوح في الجزء الثالث من قصة البيت المقدسي العتيق، عبر تتبّع شخوصه لمعرفة ما تبدّل في حياتهم. البنّاء الفلسطيني الشاب الذي ظهر في الجزء الأول وهو ينحت الأحجار لترميم البيت، صار الآن في السبعين، وما زال يعيش في بلدة الولجة المجاورة. لكن الجدار الإسرائيلي فصل البلدة عن القدس وأصبح مستعصياً عليه زيارة البيت.
أما صاحب البيت الأصلي، دكتور دجاني، الطبيب الفلسطيني الذي أُرغم على مغادرته عام 1948، فيعيش في حي مجاور في القدس الشرقية. فيما توزّع أبناؤه في الشتات بين غزة والأردن وكندا. مع ذلك، فلكل واحد منهم حاضره. وحدها مالكة «البيت» الإسرائيلية الحالية، كلير سيزاري، تعيش مثل الشبح الضائع هنا، من دون أي تجذّر في الحاضر. تعيش ممزّقةً بين ماضٍ مفقود ومستقبل يوتوبي... ما زال مستعصياً تحويله إلى حاضر ملموس!