strong> باسم الحكيم
أمضى المخرج اللبناني وليد فخر الدين شهراً كاملاً في بغداد. عاش بين أهلها، راصداً مخاوف الحاضر وهواجس المستقبل... وعاد بأربعة أفلام وثائقية، وضع موسيقاها التصويرية نصير شمّا، وتعرضها «الجزيرة» الشهر المقبل: أسئلة عن التعليم والطبابة والأحلام «المصادرة»، في بلد يعيش تحت رحمة غزاة مجانين!

في بغداد، يكبر الأطفال قبل أوانهم. يعيشون البؤس والظلم ويحرمون من أبسط حقوق الإنسان في الغذاء والطبابة والتعليم... حتى الحلم. جيلٌ بأكمله لا يحقّ له أن يحلم بالغد، لأنّ الحياة في «مدينة الرعب» معرّضة للانفجار في كل لحظة.
انطلاقاً من هذه الصورة القاتمة، يبحث المخرج وليد فخر الدين عن بقعة ضوء أو فسحة أمل، من خلال أربعة أفلام وثائقية عن بغداد وأطفالها، تعرضها قناة «الجزيرة» خلال تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأوّل (ديسمبر) المقبلين.
تبلغ مدّة الشرائط الثلاثة الأولى نصف ساعة تلفزيونيّة، فيما يمتدّ الرابع إلى ساعة كاملة. وضع موسيقاها التصويريّة نصير شمّا، وأنتجتها ثلاث شركات لبنانية، هي:
Green Line Production،
La Commerce ، 4 Production.
وفي حين يضيء الفيلم الأول على وضع المؤسّسات التعليميّة في العراق، يناقش الثاني الوضع الصحي لهولاء الأطفال، ويرصد الثالث طموحاتهم وأحلامهم. بينما يسأل الرابع من وجهة نظر علميّة: كيف يعيش العراق اليوم.
مهمة إعداد وثائقيات على أرض العراق، لم تكن بسيطة. ورحلة فريق العمل ظلّت محفوفة بالمخاطر والمشقّات. أضف إلى ذلك أن المخرج، لم يهدف من وراء أفلامه الأربعة أن يضيء على وضع الطفل العراقي من خلال الإحصائيات والدراسات. إنما سيرافقه فريق العمل في مشاهد دراميّة واقعيّة، تكون أشبه بوثائقيات شخصيّة، تتحدث عن حالات معيّنة. هكذا تبدو الصورة أكثر حميميّة حين ترافق الكاميرا الأطفال في يومياتهم، وتصوّرهم في منازلهم ومع عائلاتهم.

مدينة المتنبي

«تحوّل العلم إلى نوع من أنواع الترف في مدينة الرعب، لا تشعر بأنك تعيش في مدينة المتنبي». هذا ما يخلص إليه الفيلم الأول «أقلامٌ بلا رصاص». يتحدّث المخرج عن «حالات هائلة من التسرّب المدرسي»، وعن «خروق فاضحة لقوانين التعليم». بينها مثلاً ضرب الطلاب الممنوع قانوناً، لكنّ الجسم التعليمي يمارسه. إضافة إلى حرمان التلميذ من أبسط حقوقه، ككتابة الامتحان النهائي على اللوح بدل توزيعه على الورق. والأهم من كل ذلك، عدم تغيير المناهج التعليميّة منذ ما قبل الحصار. وها هي والدة أحد الأطفال، تُشير في الفيلم إلى أنها درست في الكتاب نفسه الذي تدرس فيه ابنتها! يحرص المخرج على تأكيد «ابتعادنا عن لغة الأرقام والأسلوب الخبري في تقديم المعلومات، لنغوص أكثر في عمق البيئة العراقية، مستندين إلى دراسات الـ UNDP (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) حول العراق حيث يلتحق خمسة آلاف طفل فقط من أصل أربعة ملايين، بالمدارس الابتدائية».
الحكاية الرئيسيّة هنا، تدور حول محمد حسين الذي حلم بأن يكون مهندساً معماريّاً. لكن حلمه تبخّر، يوم أجبره والده على ترك المدرسة، والعمل... وضع هادي لا يختلف كثيراً عن وضع محمد: والده أبقاه في المنزل، خوفاً عليه من القضاء في انفجار.
ويشرح فخر الدين عن «عبد المهيمن، وهو طفل صورناه مع الآخرين، وحددنا موعداً مع والده في اليوم التالي. ثم وصلتنا رسالة تطالبنا بمغادرة المنطقة فوراً، بعدما رفض الأب أن يصوّر ابنه مشهداً للتلفزيون، ربما بسبب الخوف أو لأنهم تعرضوا للتهديد. بعد ذلك، منعنا من دخول إحدى المدارس، على رغم حصولنا على إذن للتصوير».
ويطرح الشريط الثاني «من يداوي أطفال العراق»، أسئلة حول الحالة الصحية لهؤلاء الأطفال من خلال ثلاث حالات، إحداها أصيبت بسبب الحرب، فيما تعاني الحالتان الأخريان من تدني مستوى الطبابة في البلاد: فاطمة (12 عاماً)، بُترت ساقها. داني (9 سنوات) يعاني من مرض السكري ولا يجد الأنسولين، وميسا (9 سنوات)، فقدت بصرها، ولا تتيح الأوضاع المعيشيّة الصعبة زرع قرنية. الحالات هنا مأسوية جداً. ومع ذلك، «حاولنا الابتعاد عن البكاء والنواح قدر الإمكان، لكن الدموع غلبتنا في بعض الأحيان، فاضطررنا لإعادة التصوير».

الخوف من المستقبل

ويستشرف الوثائقي الثالث مستقبل أطفال العراق، آمالهم وطموحاتهم وعلاقتهم بالوطن. ويسألهم كمحللين، عما إذا كان العراق سيبقى في حالة ما قبل العصر الصناعي، «كما قال وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد إبان الحصار: إننا سنعيد العراق إلى ما قبل العصر الصناعي».
ويشير فخر الدين: «تركنا للقصة أن تأخذنا إلى حيث يشاء أبطالها، من دون أن نرسم خطّاً بيانيّاً أو سيناريو ونصوره. جعلنا الصورة تكتب وتعبّر بعفوية مدروسة»، وذلك بمساعدة «جمعية الأمل العراقيّة».
ويرى فخر الدين أن أهمية التطرّق إلى هذه الموضوعات الثلاثة، تكمن في كونها لم تأت من منظور سياسي بل إنساني واجتماعي بحت، ينحاز حكماً إلى الطفل، باعتباره الضحية الأولى لهذا الجنون الذي يغزو العراق.
لذا، يسلّط الوثائقي الرابع الضوء على «صورة العراق في عيون أطفاله» ويستعرض آراء الخبراء والمواطنين، من وجهة علميّة مبيّناً كيف يعيش العراق اليوم «عصر ما قبل الصناعة»، ويلخص إلى أن أمل العراق هم الأطفال، شباب المستقبل.
أكثر من شهر أمضاه فريق العمل في بغداد، سبقها شهران من التحضيرات. وفيما يتحدث فخر الدين عن صعوبة إنتاج أربعة أفلام وثائقية دفعةً واحدةً، يكشف عن «صعوبات من نوع آخر. ولعلّ أهمها منع دخول العرب إلى بغداد، لأن العربي يعني إرهابياً بالنسبة إلى العراقي، قد يفجّر نفسه في أي لحظة. وإذا كان دخول العراق والتجول في شوارعه ضرباً من ضروب المجازفة... فإنك إذا دخلت، ستجد صعوبة بأن يثق بك العراقي ويرضى بالتحدث إليك، ولا سيّما أنه يعيش في حرب شبه مستمرة منذ عام 1980، أي منذ الحرب الإيرانيّة ـــــ العراقية حتى اليوم... وأكثر ما تلاحظه هناك أن كل شيء بات مدمراً، ذلك البلد الذي كان مركز الثقافة في العالم العربي قبل عصور، صار يعيش في فوضى عارمة وحالة من الجنون».
ويرفض فخر الدين أخيراً، ذكر أسماء العراقيين الذين شاركوا في تحضير الوثائقيات «لأسباب أمنيّة، وخوفاً على سلامتهم».


العراق سيكون حاضراً على الشاشة هذا المساء، إنما بطريقة مختلفة. إذ تستضيف هالة سرحان في برنامج «قناة 5 نجوم» المطرب كاظم الساهر، فما هو جديد صاحب «بغداد لا تتألمي»؟
22:00 على «روتانا موسيقى»





مشهد حافلٌ بالتناقضات

لا تتطابق صورة بغداد في الإعلام مع الصورة الواقعية لها كلياً. ذلك أن الشعب العراقي يعاني القهر والفقر والجوع والموت والدمار والاحتلال، أكثر مما تنقله الشاشة بكثير. ومع ذلك، تغفل وسائل الإعلام الإضاءة على إرادة الحياة لدى الشعب، على رغم فظاعة المشهد.
ويشير المخرج وليد فخر الدين إلى مشهد مضحك مبكٍ، فتراه يقف مدهوشاً أمام مواطن عراقي، يردد: «لا نريد انسحاب جيش الاحتلال!». ويقول فخر الدين: «جملة واحدة حافلة بالتناقضات: كيف يطالب مواطن بسيطرة الأميركي المحتل على أرضه؟». صورة كاريكاتورية أخرى يتحدث عنها: «في عزّ الاشتباكات بين تنظيمين عراقيين، لا بد من أن يأخذ الطرفان فترة استراحة أو هدنة قسريّة، أثناء مرور الدورية الأميركيّة، ليُستكمل الاشتباك مرة أخرى بعد ذلك». وإضافة إلى صعاب أخذ التصاريح لدخول البلاد، يتوقف فخر الدين عند المخاطر التي تعرّض لها «الفريق العراقي» أثناء التصوير. إذ اعتقلته الأجهزة الأمنية أكثر من مرة للتحقيق معه. ويوضح: «ليس عادياً أن تحمل كاميرا وتتنقل بين الشوارع، وتدخل البيوت. وليس سهلاً أن تجد من يرضى بالحديث أمام الكاميرا، لأن من يرض بذلك، يعرّض حياته للخطر بشكل أو بآخر». ثم يربط بين المشهد العراقي والمشهد اللبناني في زمن الحرب: «التهجير هو أكثر ما أثّر فيّ... هنا يهجّر الأولاد من أحيائهم ومدارسهم وأهاليهم ومنازلهم. وهذا ما فعله بنا الإسرائيليون، عشيّة اجتياح بيروت».
بقي أن نذكر أن وليد فخر الدين هو مخرج مسرحي وإذاعي، قدم أفلاماً وثائقية عدة عن العنف ضد المرأة والانتخابات التشريعية في البلدان العربية، بينها: «نحو الديموقراطيّة» الذي أعده مع شريكيه في شركة «فور بروداكشن» المخرجة لينا خوري والممثل طلال الجردي، وعرضته «العربيّة» قبل أشهر. وتناول الوثائقي كيفية متابعة المجتمع المدني للانتخابات، متّخذاً كلًّا من بيروت والقاهرة نموذجاً لنقل الصورة. كذلك يجري الإعداد لفيلم جديد عن إدمان المخدرات من وجهة نظر المدمنين.