نجوان درويش
المجموعة الشعرية الأولى «مع فارق بسيط» (منشورات فضاءات، عمان) لأنس العيلة (1975) بسيطة، بل متقشفة في «تجهيزاتها» الشعرية. وهو أمر يسجّل لصاحبها، وخصوصاً أنّه نجا من شاعرين «أثّرا» في «جيل رام الله» الذي ينتمي إليه. وما زال الكثير من أفراده يرزحون، إما تحت أثقال البلاغة والغنائية بتأثير من محمود درويش، أو تحت اللغة الفلسفية و«الرؤيوية» بتأثير من حسين البرغوثي (1954-2002) الذي يعتبر الأب الروحي لهذا الجيل. ففي الفترة التي قضاها البرغوثي أستاذاً في قسم الدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، استقطب هذا المثقف والشاعر القلِق مجموعةً من الطلبة ببساطته وثقافته الواسعة، وأصبح البؤرة التي تشكّلت حولها نواة جيل شعري شاب. هذا الجيل الذي نشأ في مرحلة كان يُدفع برام الله لتكون «عاصمة ثقافية»، عقب «أوسلو» ورجوع مجموعة من الأسماء الشعرية الفلسطينية البارزة إليها، تتفاوت الآراء اليوم في تقويمه.
في مجموعته الأولى، يرصد أنس العيلة العزلة ومرفقاتها: فـ«حبّة ماء وقعت بلا جدوى على طرف البابوج» كافية لتكون قصيدة عنوانها «حادثة قرب المغسلة». «القضايا» التي تشغل بال الشاعر يومية ترتبط بالتدبير المنزلي، ومثل «ابن ضال» يتذكّر أمّه «حين فجأة يسقط زر قميصي. حين تخرب طبخة بين يدي. حين أعطس قرب نافذة مشرعة. وحين أدخل إلى الحمّام بلا منشفة... أنتظرها بجسد مبلول يرتعش». تفاصيل اليوميات، وشؤون التدبير المنزلي لابن بعيد عن العائلة، تتحول لدى أنس العيلة موضوعات شعرية يبني عليها قصائده: حياته في رام الله التي جاءها طالباً، وفي فيشي وليون الفرنسيتين بعدها، تداعيات بضمير الأنا وحوادث صغيرة تنطلق من الذات وتدور حولها. كأنّها يوميات، يكتبها صاحبها بلغة بسيطة تنأى عن البلاغة. وإن كانت البساطة هنا خادعة وتخفي الكثير من الجهد والصنعة. الذات هي المركز في المجموعة، ذات الشاعر/ الطالب/ الابن (المدلل؟). حتى إهداء المجموعة هو «إليّ، في الثلاثين من عمري»... هكذا، تكاد القصائد تكون مرايا ذاتية لمؤلفها، على رغم أنّه «جائع جوّال» ويحلم «ببيت تدخله الشمس/ ولو من نافذة واحدة/ وثلاجة هادئة في الليل/ وسرير لا يربّي آلاماً في الظهر/ ووجبة منتظمة».
وفي المجموعة «اعترافات» بـ«رذائل صغيرة» واصطياد للطرافة: «وجدتِ مرّةً ملابسك الداخلية في جيوبي/ فهمست إليّ/ وأنا سرحانٌ على الكنبة: غسالتكَ الجديدة سافلة مثلك». وبسبب موضوعها المركزي (حياة طالب في الاغتراب)، تحيل مجموعة أنس ـــــ ولو بطريقة عكسية ـــــ على مجموعة عمرها الآن 50 سنة هي «الناي والريح» لخليل حاوي. الدراما الوجودية، ورؤيا الانبعاث الحضاري والتراجيديا القومية في غرفة الطالب حاوي في «صومعة كامبريدج» (وصراخ الشاعر المحرور عشية فك الوحدة بين مصر وسوريا «أيصحّ عَبْرَ البحرِ تفسيخُ المياه؟»). وسنرى الفارق «البسيط» حين نضع مقابلها حياة الهامش والفراغ التي يسجّلها الطالب أنس العيلة في مغتربه الفرنسي. وبهذه المقارنة، لن ندرك التحوّلات الجذرية التي مرّت بها لغة الشعر العربي في نصف قرن فقط، بل سيتاح لنا أن نرى أين وصلت الذات الحضارية للعرب. فالشعر ـــــ على ما يبدو ـــــ يقول لنا أكثر مما نظن أنّ في استطاعته أن يقول!