القاهرة ــ محمد شعير
إنّه، كما يقدم نفسه، «تاريخ من المعارك»: حين لا يهاجم أدونيس، يتفرغ لشعراء قصيدة النثر... يفتح النار على الإسلاميين وأهل التنوير في آن واحد. واليوم، الأصوليون حجزوا أثاثه، والسلطة تخلّت عنه، وزملاؤه اعتصموا بالصمت. إلى أين يمضي عبد المعطي حجازي؟

أحمد عبد المعطي حجازي تجاوز السبعين، وما زال قادراً على إثارة الجدل أينما حلّ، ومهما كتب. قبل أيام، طرح أثاث منزله في المزاد، لرفضه سداد غرامة قررتها محكمة استئناف القاهرة. إذ ثبتت عليه تهمة سبّ الشيخ يوسف البدري المشهور بمطاردة العلمانيين. وهناك معاركه في «الأهرام»، وآخر ضحاياها أحد تنويريي السلطة: جابر عصفور الذي ارتكب «جريمة» لا تغتفر، حين أعلن أنّ محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف أهم الشعراء الأحياء.
يصف حجازي نفسه بأنّه تاريخ من المعارك والتحوّلات. إبن الريف الآتي من تلا إحدى قرى المنوفية (شمال العاصمة)­ إلى القاهرة التي «بلا قلب»... مغنّي الثورة والعروبة ـــ المقرّب لفترة من النظام العراقي السابق ـــ ومنشد مشروع الدولة الجديد... هو نفسه الذي أعلن بعد ذلك بحماسة: «لا نريد قومية عربية على طريقة جمال عبد الناصر»! لكن في كل تحوّلاته ومعاركه، وقف حجازي ببسالة مدافعاً عن آرائه، ممتلكاً شجاعة إعلان التحوّل في مساره!
ويظلّ صاحب «مدينة بلا قلب» إشكاليّة مركّبة، ومساره الصاخب يبقى محل تساؤل: هل رافقت تحولاته حركة تطوّر الأفكار واتساع الثقافة في العالم؟ أم إنّها مجرّد تخبطات مثقف مأزوم يبحث عن موقعه داخل السلطة؟!
لم يكن حجازي (1935) قد تجاوز العشرين عندما دخل أولى معاركه مع الشاعر والمفكّر عباس محمود العقاد، أشهر وألمع الأسماء في خمسينيات القرن الماضي. كان العقّاد يرى أنّ ما يكتبه الشعراء الجدد مثل صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي ليس سوى عبث نثري، ورفض مشاركتهم في مهرجان للشعر في دمشق. وقتها، كتب حجازي قصيدةً شهيرةً في هجاء العقاد... ومرّت الأيام، فوجد حجازي نفسه في مقعد العقاد، مقرراً للجنة الشعر في مصر... وإذا به، في تعامله مع قصيدة النثر، يفعل أسوأ من الشاعر الكلاسيكي الذي احتقر قصيدة التفعيلة حين بدأ يكتبها حجازي! وعندما سألناه: هل أصبح عقاداً جديداً؟ أجاب: «الصراع بين الجديد والمحافظ، سمة كل عصر. لكن الفرق بيني وبين العقاد أنّه استخدم سلطة الدولة لمواجهة النص الذي كنّا نكتبه. أظن بأنّني لم أستخدم سلطة الدولة لفرض تصوراتي».
سافر الشاعر إلى باريس مطلع السبعينيات، بعد خلاف مع نظام السادات، متأثراً بصديقه لويس عوض الذي كان «نافذته على العالم الخارجي». وعندما عاد بعد عقدين، كانت الدولة قد بدأت معركتها مع الإسلاميين، وحشدت لها كل طاقاتها. المثقفون دخلوا المعركة إلى جانب الدولة، لإحساسهم بالخطر، فإذا بهم ــــ من حيث لا يدرون ــــ أدوات في يدها، وغطاء لبطشها، يعطيها الشرعية التي تفتقر لها. هكذا عاد حجازي من باريس كاتباً لمقال أسبوعي في صحيفة «الأهرام»، ورئيس تحرير «إبداع» المجلة التي شكّلت مكاناً لمعارك حجازي. منذ العدد الأول كتب مقاله الشهير «صفوة وحرافيش» قسّم فيه المبدعين إلى صفوة (يُسمح لهم النشر في «إبداع») وحرافيش (لا يحق لهم النشر)، وكانت تلك معركته الأولى مع المثقفين، فقاطع معظمهم المجلة، ولا سيما مبدعو الأجيال الجديدة.
الأزمة الثانية أثارها أحد أساتذة الجامعة في الإسكندرية، عندما بعث إلى رئاسة الجمهورية برسالة حذّر فيها من استيلاء اليسار على الثقافة، ورئاسة تحرير كل المجلات الثقافية. وكان يقصد إلى جانب حجازي، غالي شكري الذي كان يرأس مجلة «القاهرة»، وجابر عصفور الذي يرأس مجلة «فصول». قام حجازي يومها بنشر الرسالة في «إبداع»، وتردد أنّ رئاسة الجمهورية غضبت من هذا الموقف، إذ إنّ الرسالة بُعثت بشكل شخصي إلى وزارة الثقافة.
وبعدها، أثار الشاعر زوبعة بسبب لوحة غوستاف كليمت التي نشرها في «إبداع»، وتراءى للإسلاميين أنها تخدش الحياء، فاستجوب أحد نوابهم وزير الثقافة بشأنها في مجلس الشعب. وتلتها أزمة أخرى بسبب نشر قصيدة عبد المنعم رمضان «أنت الوشم الباقي»... ثم صارت مشاكل حجازي ومجلته مع «الهيئة المصرية العامة للكتاب» ناشرة المجلّة، إذ اعترض سمير سرحان رئيس الهيئة وقتذاك على نشر مقال للناقد المسرحي فاروق عبد القادر، ينتقد فيه عملاً من أعمال سرحان. وعندما احتجّ بعض أهالي الطلبة في الجامعة الأميركية على تدريس كتاب «محمد» لمكسيم رودنسون و«النبي» لجبران، نشر حجازي نماذج من كتابات رودنسون، كي يحكم القارئ بنفسه. لكنّ عمّال المطبعة اشتكوا للدكتور سمير سرحان، فأوقف العدد. هكذا بدا أن المعارك ضدّ «إبداع» وزعيمها، انتقلت من الأصوليين إلى «مثقفي الخندق التنويري» نفسه! ولم يعد أمام حجازي سوى الاستقالة من رئاسة تحرير المجلة.
الآن يخوض حجازي معركةً أخرى! بعد أيام وتحديداً في الثامن من الشهر الجاري، سيُعرض أثاثه للبيع في مزاد علني، بعدما رفض دفع عشرين ألف جنيه (3500 دولار) للشيخ يوسف البدري، حسب قرار المحكمة التي رأت أن الشاعر أساء إلى الشيخ في أحد مقالاته. نتذكر هنا تحذيرات بعض المثقفين النقديين: السلطة ستستعملكم في معركتها مع الإسلام السياسي ـــ قال هؤلاء لأقرانهم ــــ ثم تتخلى عنكم عند أول منعطف... هل هذا ما يحدث مع حجازي؟