حسين بن حمزة
لا بدّ من أن كثيرين انتبهوا في السنوات الأخيرة إلى أن اسم أحمد عبد المعطي حجازي غالباً ما يُذكر لأسباب لا تتعلق بشعره، بقدر ما تتعلق بـ «معاركه» التي تكون معارك منتهية الصلاحية أصلاً، وغالباً ما يؤدي فيها دور الجاني لا المجني عليه.
ما إن يُذكر اسم حجــــــازي اليوم حتى نتذكر شكواه وتذمّره أكثر من شعره. لقد توقف صاحب «مدينـــــــة بلا قلب» عن كتابة الشعر منذ عقدين تقريباً. وراح يقضي وقت فراغه إما بافتعال هجوم على أحد الشعراء، أو بشتم الأجيال الشعرية الجديدة. أما في الأوقات التي لا يجد فيها «ضحية» مناسبة وجاهزة له، فإنه يستعيد نغمته القديمة (التي باخت وباتت ممجوجة لكثرة استعمالها) في إنكار شعرية قصيدة النثر. لعل لسان حاله يقول إنه عاش تحت الأضواء شاعراً، فلماذا تخفت الأضواء حوله وهو متوقف عن الشعر؟
الشاعر الذي امتلك جرأة الشباب وروحهم المتوثبة والاقتحامية، ووقف في وجه عباس محمود العقاد حين أحال قصيدته التفعيلية إلى لجنة النثر، عاد وأدّى دور العقاد، فاستبعد معظم ما كتبه شعراء شبان (كان في سنهم ذات يوم) من خانة الشعر. الشاعر الذي وصف نفسه في بداياته بالقول: «أنا أصغر فرسان الكلمة/ لكني سوف أزاحم من علّمني لعب السيف/ من علّمني تلوين الحرف»، راح يتعالى على أشباهه من الفرسان الصغار، متهماً إياهم بالركاكة والضعف والجهل، متجاهلاً أن الزمن يقتضي أن يزاحم هؤلاء من علمهم «تلوين الحرف».
لعل توقف حجازي عن كتابة الشعر أوقفه، أيضاً، عن مصاحبة من كتبوا ويُكتبون بعده، ومنعه من تذوق الحساسيات والمقترحات الجديدة. بل إنه سخر مرة من مفهومي «الكتابة عبر النوعية» و«الحساسية الجديدة» اللذين طرحهما إدوار الخراط في الثمانينيات وتبناهما عدد من الشعراء والكتاب المميزين في تلك الحقبة. كأن حجازي يريد أن يُوقف الزمن في اللحظة التي توقف هو فيها عن الشعر.
الأرجح أن جزءاً من موقف حجازي يمكن أن يُعزى إلى الجحود الذي قوبلت به تجربته الشعرية من بعض الأبناء وأغلب الأحفاد. ولعل مرارة حجازي واستياءه الدائم من كل المستجدات الشعرية ليسا إلا رد فعل غير مباشر على جحود مفترض وغير متعمد بالطبع من الأبناء والأحفاد. إن المشهد الشعري الحالي في مصر، يؤكد أن أغلب الشعراء الجدد لا يجدون مستقبلهم الشعري في قصيدة حجازي، بل إنهم يستثمرون في أرض شعرية غير مصرية بالكامل. معظم شعراء الثمانينيات والتسعينيات ــــ وحتى بعض السبعينيين ــــ يجاهرون بمرجعيات شعرية لبنانية وسورية وفلسطينية لتجاربهم الشعرية. إضافة إلى أن ما يُكتب من شعر راهن في مصر بات بعيداً، لا عن تفعيلة حجازي التي كانت تلوي عنق المعاني والاستعارات بسبب قلة مرونتها، بل حتى عن الموضوعات التي سادت، وطرائق تناولها، سواء في شعر حجازي أو شعر بعض مجايليه من الشعراء العرب.
الواقع أن هذه المقارنة بين تجربة حجازي وتجارب الشعر المصري الراهن، تدفعنا إلى سؤال مشروع وضروري: كيف ينظر حجازي إلى شعره هو، وما هي العلامة التي يعطيها لنفسه؟
حجازي الذي انتقد مراحل ومواقف من سيرته الفكرية والسياسية، وانتقص من قدر تجارب أجيال بكاملها، مدعوّ إلى درس تجربته هو، قبل أن يعدم مواهب الآخرين لمجرد أنهم شبان صغار أرادوا أن يكتبوا بحرية. ولعلها من سخريات القدر أن الشعراء المصريين يتضامنون اليوم مع حجازي بسبب الحجز على أثاث بيته، لا دفاعاً عن شعره.