strong>عثمان تزغارت
هل هناك حياة بعد أميركا؟ وإذا كان الجواب نعم، فما هي سماتها؟ وكيف تختلف نظرة مَن يعيش هذه الحياة البوست ــــ أميركيّة للأمور؟ هذه هي التساؤلات التي انبرى المخرج الكندي جان دانييل لافون للإجابة عنها في شريطه التوثيقي «الهارب» أو «حقائق حسن» الذي يُعرض حالياً في الصالات الباريسية.
حسن هو في الأصل ناشط إسلامي أميركي أسود، اسمه الحقيقي ديفيد بيلفيلد، تحمّس للثورة الإيرانية في بداياتها. وقاده ذلك إلى اغتيال ممثّل الشاه المخلوع في واشنطن خلال صيف 1980، بإيعاز من حرس الثورة الإسلامية الناشئة التي كانت تتصيّد أيّ قوى قد تنقلب عليها.
نجح ديفيد بيلفيلد في الفرار بعد عملية الاغتيال وتوارى عن الأنظار 22 سنة. وكان القضاء الأميركي قد حكم عليه بالإعدام غيابياً، لكنّ محققي مكتب التحقيقات الفيدرالية لم يتمكّنوا من معرفة الوجهة التي سلكها، وإن كانوا رجّحوا أنه فرّ إلى إيران ليعيش بهوية جديدة في حماية «الحرس الثوري»...
مع مرور السنوات، لم يعد أحد يذكر «الهارب» ديفيد بيلفيلد إلى أن عاد اسمه فجأة إلى الواجهة، في صيف عام 2002، على خلفية الرواج العالمي الذي حقّقه فيلم «رحلة إلى قندهار» للسينمائي الإيراني المخضرم محسن مخملباف. الفيلم الذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية في «مهرجان كان»، عرف طريقه إلى الصالات العالمية في خريف 2002، بالتزامن مع الذكرى الأولى لهجمات 11 أيلول (سبتمبر). وكان أول عمل إيراني يُعرض في أميركا منذ قيام الثورة. وإذا به يحمل مفاجأة صاعقة بالنسبة إلى المحققين الأميركيين. إذ اكتشفوا أن «الممثّل» الزنجي الذي جسّد شخصية دور طبيب أميركي أسود، يتطوّع لعلاج المعوزين في أفغانستان ليس سوى... «الهارب» ديفيد بيلفيلد!
أثار الاكتشاف فضول وسائل الإعلام الأميركية والعالمية، فوجد «الهارب» نفسه في دائرة الضوء مجدداً بعد 22 سنة من التخفّي والسرية. وتبيّن أنّه يعيش في طهران باسم جديد هو حسن عبد الرحمن، وأنّه يلعب في فيلم «قندهار» شخصيته الحقيقية، إذ أصبح طبيباً متطوّعاً يخصّص كامل وقته لعلاج الفقراء والمعوزين!
وانهالت الانتقادات على السينمائي محسن مخملباف بتهم «التواطؤ مع مجرم»، أو «التستر على قاتل هارب من العدالة». ولم تنتبه سوى قلة نادرة من المحلّلين إلى الرسالة المبطّنة التي مرّرها عبر اختيار ديفيد ــــ حسن، لتأدية دور طبيب الفقراء المتطوّع، وهي مهنته الفعلية في حياة كل يوم.
أثبت الكندي جان دانييل لافون في شريطه الوثائقي «الهارب» الذي يتحدث فيه “حسن” لأول مرة بوجه مكشوف، أنّ اختيار الأخير كممثل من مخملباف لم يأت جزافاً. فنقاط تشابه كثيرة تربط بين الرجلين وبين مساريهما السياسيين. كان محسن مخملباف، مثل ديفيد بيلفيلد، ناشطاً متحمّساً للثورة الإسلامية في بداياتها. لكنّه رأى الأحلام الثورية الوردية تتساقط حوله كأوراق الخريف، وتراجعت حماسته الثورية مع مرور السنين، فانتقل تدريجاً إلى موقع المعارض لنظام الملالي، إلى أن أصبح هو وزوجته مرضية مشكيني (جائزة النقاد في مهرجان البندقية ــــ 2000 ــــ عن فيلمها «يوم أصبحتُ امرأة»)، وابنته سميرة (جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان ــــ 2004 ـــــ عن فيلمها «الخامسة عصراً»)، من أبرز رموز سينما المقاومة الإيرانية ضد نظام «الجمهورية الإسلامية» الذي يُحكم قبضته الحديدية على البلاد منذ أكثر من ربع قرن.
سعى جان دانييل لافون إلى تقصي «حقائق حسن» كما عاشها هو، لا كما صوّرها المحقّقون الأميركيون. وفي حديثه المطوّل خلال هذا الشريط، يبدو واضحاً أن حماسة «حسن» الثورية تراجعت، وأن هوة نقدية تشكّلت وتفاقمت على مرّ السنين، بينه وبين نظام الملالي الحاكم. لكنّ «حسن» يؤكد أن ذلك لا يعني أنه نادم على خياراته. فإذا كانت الثورة الإسلامية قد خيّبت آماله، ولم تحقّق أحلامه الثورية، فإنه في المقابل لا يشعر إطلاقاً بالحنين إلى أميركا التي ما زال يعتبرها شراً مطلقاً.
رغم كل مآخذه على الوضع السياسي والاجتماعي في إيران، إلا أنّ «حسن» يؤكد أنّه بعمله كطبيب متطوّع يداوي الفقراء والمحتاجين مجاناً، يثبت كل يوم بأن هنالك بالفعل «حياة بعد أميركا»، وأنها حياة هنيّة تستمدّ مصدر سعادتها من عون الآخرين وخدمتهم، بعيداً عن الأنانية والفردانية السائدة في
الغرب.
ولعل تلك هي المفارقة التي تقصّد محسن مخملباف تسليط الضوء عليها، منذ البداية، حين فكّر في إشراك «حسن» كممثل في فيلمه الشهير!