حسين بن حمزة
  • كــل الحكايــات تقــود إلــى الذاكــرة المطعونــة


  • «التشهّي» (دار الآداب) رواية شخصيات ومونولوغات متداخلة. الجنس فيها يختلط بالسياسة والأحزاب والمنفى والذاكرة... تغوص عالية ممدوح هنا في جراحها السريّة، من خلال سرد روائي ذي طبقات متعددة، جاعلة من العجز الجنسي كناية عن الإحباط السياسي لشعب ومرحلة وجيل. رحلة إلى أعماق الكابوس العراقي

    تبدأ رواية عالية ممدوح «التشهي» (دار الآداب) حين يفقد بطلها قدرته الجنسية. يذهب العراقي سرمد برهان الدين إلى طبيبه الباكستاني، فيؤكد له، ساخراً، أنّ «صاحبه» (كناية عن العضو الذكري) أصيب بنوع من السكتة، مثل السكتة القلبية والدماغية. أما يوسف، صديق سرمد، وهو طبيب نفسي عراقي يعيش في باريس، فيصف الأمر بطريقة أخرى، قائلاً له إن «صاحبه» اعتزل.
    القارئ يظن أنّ هذا الاستهلال، المثير والمشوّق، ستترتب عليه تفاصيل الرواية كلها. لكنّه يكتشف أن عالية ممدوح أمسكته بطرف خيط سرعان ما يقوده إلى «كبكوبة» من الخيوط المتشابكة والمعقّدة. سرعان ما سيجد أنّ سرمد ليس بطل الرواية الأوحد، وأن مسألة توقف «صاحبه» عن أداء مهامه المعتادة، ما هي إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد، إذ تخفي تحتها قصصاً وشخصيات عدة. كما أنّ الإثارة والتشويق اللذين يعدُ القارئ بهما نفسه، سرعان ما يتكّشفان عن خطة روائية مختلفة.
    الواقع أن عنواناً مثل «التشهي» وفقدان البطل رجولته منذ البداية، قد يوحيان بتماثل بين الرواية وما صدر، ويصدر، في الآونة الأخيرة من روايات تستثمر الجنس بخفة وركاكة. إلا أن عالية ممدوح أكثر خبرة وموهبة من أن تقع في فخ ساذج وخفيف كهذا. مستهلّ الرواية، بهذا المعنى، ما هو إلا ضربة سردية استباقية لشد اهتمام القارئ، وإدخاله بسرعة إلى عوالم الرواية. لكن كلما توغل فيها، سيجد أنّه علق أكثر فأكثر في موضوعات وسير شخصية، متشعبة وكثيرة.
    سرمد منفي عراقي يعيش في بريطانيا ويعمل مترجماً. زمن الرواية يبدأ أواخر تسعينيات القرن الماضي، لكن الأحداث التي تتناولها تعود إلى فترات أقدم، وتدور في بغداد. وما يبدو أنه بداية الرواية، هو، في الحقيقة، نهايتها. فحادثة فقدان سرمد ذكورته، أشبه بمقتل شخصية ما في رواية بوليسية، يليه سرد القصة بتقنية الـ«فلاش باك».
    بعد محاولات عدة لاستيعاب ما حدث له، يجد سرمد برهان الدين نفسه غارقاً في استعادة حياته الجنسية الماضية، بدءاً من تجربته الأولى. الأستاذة الاسكتلندية في المعهد البريطاني في بغداد، فيونا الأربعينية الشبقة التي فقد معها عذريته. فيونا ليست سوى ذكرى قديمة. النساء الأكثر حضوراً هنّ «ألف» التي أحبها وبقيت في العراق، وكيتا الألمانية، ثم المغربية أمينة الملقبة بـ«البيضاوية»، إضافة إلى نساء عابرات ومجهولات.
    إذا كان اختفاء قــــــــــدراته الجنسية، سبباً لقيام ســـــــــرمد باستـــــــــعادة مغـامراته النسائية، فذلك لا يحدث لاستعراض ماضٍ جنسي نشيط فحسب. ثمة استراتيجية سردية تنجح فيها صاحبة «حبات النفتالين» في جعل الحوادث الجنسية تحضر مصحوبةً بقصص وتفاصيل كثيرة، إلى حد يــــبدو الجنس فيها مجرد ذريعة لا أكثر. استدعاء ألف، مثلاً، يُحضر معه ماضياً عراقياً أشبه بالكابوس.
    نكتشف أن ثمة أخاً أكبر لسرمد هو مهند الذي كان ــــ ولا يزال ــــ عضواً في جهاز المخابرات العراقي. إنها وظيفة كفيلة ــــ سردياً على الأقل ــــ بكشف واقع عراقي محكوم بممارسات مروعة ومفرطة في وحشيتها. مهند الذي نكّل بالشيوعيين العراقييين، وترقّى وجاب العالم بوظيفته، يصل به الأمر إلى مراقبة شقيقه سرمد حتى وهو في الخارج. وسنعرف أنه تزوج ألف عنوة، بعد اعتقال والدها وموته تحت التعذيب، ثم اختفاء شقيقها الذي لم يُعثر على جثته، وإصابة والدتها بالشلل. بل إنه يحتفظ بتسجيلات مصورة لسرمد وهو يمارس الجنس مع كيتا ومع البيضاوية، وحتى مع ألف حين زارته ذات يوم في لندن. وعلى الهاتف يقول له بفظاظته الاستخبارية: «خراء عليك وعلى ألف التي كانت تضاجعني، وهي تحلم بك فوقها وأنا أعرف ذلك... أبول عليك وعلى رائحتك الخاصة التي كنت أشمها في عرق وإبط ألف».
    ستواظب ألف على البقاء في ذاكرة سرمد، وسترافقه حتى وهو يضاجع كيتا والبيضاوية. إنها حبّه الأول. أما دائرة ضحايا مهند، فتتجاوز سرمد وألف. سنعرف أن مهند اغتصب يوسف في الماضي. يوسف الذي ينصح صديقه سرمد بالقدوم إلى باريس للعلاج، سيتولى، بنفسه، سرد حكايته: «لستُ وحدي الذي كان يفعل به كذا وكذا. كان يتركني أنزف كما المرة الأولى، حتى يمتلئ لباسي الخام بالدم الذي ظلت صورته تطاردني حتى هذه اللحظة». ثم يضيف بهذيان كابوسي: «أول ما قرأت «المركب النشوان» أصابتني قشعريرة، فتصورت رامبو تحت مهند، وهو يعتصره فيكتب مقطعاً بعد آخر والدم ينزف مني ومنه».
    تفسح عالية ممدوح لأبطالها (إقرأ: ضحاياها) بأن يلعب كل واحد منهم دور راوٍ صغير داخل نبرتها الشاملة هي كمؤلفة. كيتا، خريجة الأدب في جامعة كارل ماركس في لايبزغ، وعاشقة بوريس باسترناك في الخفاء، ستروي قصتها. وكذلك البيضاوية، ويوسف وأبو العز وأبو مكسيم. أما ألف فقصتها حاضرة في حكايات الآخرين، قبل أن تتولى مهمة إقفال الرواية على مشهد بغداد سنة 2003، وهي تسقط تحت الاحتلال الأميركي: «سرمد، تُرى أيهما صحيح، روتين الحرب أم الحرب الروتينية؟... لا شيء يحدث أكثر من الحرب، هي التي تحصل دائماً... كل يوم... وسوف تدوم طويلاً كجميع الحروب». أما سرمد، العاجز جنسياً، فستصرخ به البيضاوية:«مدينتكَ تُدكّ دكاً وأنت غير قادر أن تدكّني بوردة».
    يصعب اختزال الرواية بالسياقات السردية لشخصياتها. فعلاوة على أن هذه السياقات متشابكة، ثمة سعي من عالية ممدوح إلى كتابة سرد روائي ذي طبقات متعددة. هناك دسم في هذا السرد الذي يتوغل في حياة الشخصيات. صاحبة «المحبوبات» (جائزة نجيب محفوظ للرواية، 2004) تنجز روايتها بتقنيات متعددة. الرواية نفسها تجعل هذه التقنيات ممكنة ومواتية. إنها رواية شخصيات ومونولوغات منفردة ومتداخلة في آن واحد. تمكن قراءتها بوصفها قصصاً داخل قصص، مثلما نتحدث عن «المسرح داخل المسرح».
    لعل الجنس هو الحاضر الأكبر في طيّات كل شخصيات الرواية وتفاصيل أحداثها. وإذا كانت عالية ممدوح قد قدّمت عجز سرمد الجنسي مفتاحاً لـ«التشهي»، فإنها تكرر استخدام هذا المفتاح بحسب حاجة السرد إليه. الجنس يحضر منفرداً، أو مخلوطاً بالسياسة والأحزاب والمنفى والذاكرة... ذات مرّة يقول يوسف لسرمد: «ولا مرة سألتكَ عن مرجعيّتك»، فيمدّ سرمد يده إلى ذَكَره، ويجيب: «هذا!»...