strong>ياسين عدنان
لم يعد الأدباء يكتبون القصص لتسلية القراء بحكايا مشوقة، بل ليفهموا أنفسهم ويتحرروا من عُقدهم القديمة. هذا على الأقل ما تعتقده القاصة المغربية الشابة فاطمة بوزيان التي اكتشفَتْ من خلال قصتها «أسرار» سبب هوسها بامتلاك علب البريد الإلكتروني، من «هوتمايل» و«ياهو» و«مكتوب» وسواها، في كل فضاء إلكتروني جديد يتيح لها أن تفتح فيه إيميلاً شخصياً.
عبر هذه العناوين، المتعددة والمحصنة بكلمات سر لا تبوح بها لأحد، إنما تحاول الكاتبة أن تطفئ داخلها ذلك الاشتهاء القديم لامتلاك علبة بريدية خاصة. فالطفلة بوزيان لم تنسَ كيف انتهك والدُها تلك الرسالة التي تلقّتها من حبيبها الإسباني الصغير خوليو: «ليس لي صدر من زجاج، ويؤلمني لحمُ القلب ولحمُ الروح... كان والدي يقرأ بلسان غاضب كلمات لوركا تلك، وكلمات خوليو بينها وأنا أرتعش».
اليوم كبرت الطفلة، وصارت لديها عناوين إلكترونية متعددة محصنة بكلمات سر يستحيل فك شفراتها. لكنها صارت بلا أسرار. وهي حزينة لأجل ذلك. في باقي نصوص مجموعتها القصصية الثانية «هذه ليلتي» (منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة)، بدت القاصة المغربية الشابة القادمة إلى الرباط من جبال الريف، من أرض عبد الكريم الخطابي ومحمد شكري، بدت حريصة على أن تُزايد على العالم الواقعي بما يتيحه لها الفضاء الإلكتروني الجديد من مساحات بوح وحرية. فالعلاقات الافتراضية بالنسبة إليها هي الأصل، وهي قادرة على تدمير العلاقات الواقعية وإلغائها في كثير من الأحيان.
في قصة «بريد إلكتروني» مثلاً، يتخفَّى الزوج وراء اسم مستعار، ويشرع في التغزل بزوجته. لكن هذا الكمين السخيف لم يُسلِّه كما كان يتصور. فالزوجة ستستسلم بسهولة أمام غارة هذا الفارس الإلكتروني المجهول: «أنت الذي أشعلتَ في القلب المصابيح المُطفأة وزرعتَ الدفء في أوصالي، أقصد أوصال بريدي»، تجيب المرأة ليستقر ردُّها المباغت طعنة في قلب الزوج: «عليَّ اللعنة، كانت مجرد مزحة. وها قد ارتدّت إليَّ طعنة خنجر. الليل يطول. الصمت جرح والظلمة جرح آخر وأنا القاتلُ والمقتول». العلاقات الحقيقية هي التي يتيحها لنا الإنترنت. والمشاعر الحقيقية هي التي نُعبِّر عنها هناك أمام الشاشة الزرقاء. بل حتى اللغة يجب أن نعيد النظر فيها، لتصير جديرة بالزمن الافتراضي الجديد. وبالفعل، لم تكتف فاطمة بوزيان في «هذه ليلتي» بالتعامل مع الإنترنت كفضاء للسرد، أو كموضوع أدبي، بل حاولت أن تقترح علينا لغة من صميم عالمها الرقمي: «شعرتُ بنفسي خفيفة جداً، كأني واقع افتراضي، وديعة جداً مثل صورة مضغوطة. كان الطبيب هادئاً، وقال لي بلغته التي فهمتُ منها بلغتي أنَّه تسرَّب إليّ لأني ما زلت بلا حماية، وأن حصص العلاج المتبقية هي من أجل تحميل ما يمكن أن أسميه أنا «أونتي فيروس» يَقِيني تسرُّبَ الآخرين إليّ». كانت الكائنات تتسرب إلى بطلة القصة من الحي، من شاشة المحمول، من التلفزيون، من شاشة الحاسوب، من الشارع، من مكان العمل... «فاحتشدتُ وازدحمتُ كأني مدينة كاملة، بحدائق ورياض أطفال ومزابل ومتاجر وأسواق».
لكن هذا الازدحام لم يمنعها من اختيار اللغة المناسبة، اللغة الرقمية التي تشبهها وتشبه عالمها الإلكتروني الجديد. ففاطمة بوزيان لا تعرف السهم، ولا البرق، ولم تُجرب سرعتهما... لذا تفضل تشابيه من نوع مختلف: «في الطريق تجاوزتني سيارةٌ بسرعة من الصَّبيب العالي». وعوض أن تتحدث عن صورة الحبيب المعلقة على الجدار تتحدث عن الصورة المُحرَّرة بدقة، وهكذا تستغل الفضاء الرقمي لتُولّد منه العديد من التراكيب اللغوية والمعاني المجازية المبتكرة. بل إنها لن تتردد في قصة «فستان إليزا» في اقتراح الاستعانة بصورة فستان كرابط داخل النص عوض وصفه بالكلمات: «سأقول لبلزاك: حرر الصورة، ضعها جنب النص أو ضع لها رابطاً ترتاح وأرتاح... لم تكن فكرة مُرضية. هو يريد أوصافاً حبرية، مجازات، استعارات، تشبيهات. أقول له: كل هذا من أجل فستان؟».
في قصص فاطمة بوزيان، الكثير من الفرح والكثير من الحزن أيضاً. لكن في نهاية المجموعة ستكتشف أن الكاتبة استنفَدَت رصيدها من الحزن «كما تستنفدُ بطاقةُ تعبئةٍ رصيدَها». لكنّها مع ذلك، لم ترتح ولم تفهم نفسها تماماً. فالكثير من عُقد الطفولة ما زالت هنا في كُمون. ربما تحتاج فاطمة إلى المزيد من القصص لتفهم نفسها، أكثر فترتاح ويرتاح قراؤها. لكن القارئ، بالنسبة إليها، ليس مجرد قارئ. ليس عنصراً خارجياً محايداً. بل هو جزء من لعبة فاطمة بوزيان السردية. لذا لن تتردد في رمي كرة السرد في ملعب القراء، لتطرح عليهم سؤالها الرقمي المُؤرّق: أعزائي القراء... «من يفك لي شيفرتي؟».