strong>عبادة كسر
أخذ علي عباس صالح (44 سنة) من قريته البقاعية بريتال البساطة وانعكست صلابةً وجرأةً توّجت رسومه الكاريكاتورية. كان في الخامسة من عمره عندما حاول أن يوالف ما بين القرية والمدينة. وحين بدأ نجم «الضيعة القديمة» بالأفول لناحية العمران المؤلف من البيوت والطرق ووسائل النقل والاتصال... بحث عن القرية في الذاكرة، وجال في المعارف القديمة البالية من ثقافات وعادات وتقاليد ومستلزمات تلك الحياة


سندباد اليوم استقر في بلدته بريتال في البقاع، لكن قصته مع الترحال لم تنته. انطلقت مغامراته في رسومه التي فسرت وجود لبنان بدءاً من المدينة فالريف والطبيعة، وتدل لوحاته على أنه لا يؤمن بحدود ولا بحكومات.
يقول علي: «شاركت قبل 20 عاماً في معرض غوته في رأس بيروت، عندها سألوني إذا ما كنت متأثراً بسيلفادور دالي»، فسارع إلى مكتبة أنطوان في الحمراء واشترى كتاباً لأعمال سيلفادور دالي، ويتذكر «دفعت حينها 40 دولاراً».
«الرسم الكاريكاتوري يشرح نفسه»، وهو وسيلة علي ليثور على الواقع المحلي والعربي والعالمي. وقد أرّخ حرب تموز الأخيرة بلوحات تحكي قصة المقاومة وتترجم دعم اللبنانيين لها.
تأثُّر علي صالح بناجي العلي كبيرٌ، وهو يعشق الكلام عليه، وعلى لوحات زيتية للعلي عُرضت في الشام ولا يعرفها إلا القلائل.
يكتب صالح الشعر الثائر الغاضب والرافض للواقع السياسي والاجتماعي المحلي والعربي والعالمي، ويطلق على شعره اسم «كلمات للإنسانلم يرض علي بالتقليد وثار عليه، وتعامل حديثاً مع المواد الطبيعية لرسم لوحاته فاستخدم ورد شقائق النعمان، وقشر الرمان، وقشر الجوز الأخضر.....
وذلك عن طريق «الحف» على القماش ليعطي لوناً معيناً. يعالج موضوعاته الفنية بالحنة التي «تضفي لوناً جميلاً» وتفل القهوة ويثبت الألوان بـ«حليب الغنم»، ويقول: «هذه الطريقة غير مكلفة، وهي مدرسة جديدة في عالم الرسم وكسر التقليد».
خيال علي صالح لا يعرف حدوداً، وابتكاراته مميزة فقد جعل من شجرته الخاصة مطبخاً لأفكاره وفنونه، يقضي أكثر من 8 ساعات يومياً في خيمته، الصومعة الطبيعية، يفكر ويتأمل ويستقبل أصدقاءه للعب الدامة والشطرنج. بلغت شجرته عامها الثلاثين، وعندما كانت صغيرة ربط أغصانها في اتجاه الأرض وأخذ بتقليمها من الداخل حتى غدت خيمة طبيعية تخفي ما تحتضنه تحتها بمساحة 20 متراً مربعاً تقريباً.
لا تفارق ذاكرة علي صورة جده عندما كان يجلس بجانب النافذة يتكئ على يده وبجانبه «الريحانة أو الحبقة»، الحنين إلى «الضيعة القديمة» جعل منه باحثاً في التراث، يجمع كل ما هو قديم ومرتبط ببيت الطين ومستلزماته.
بيوت الطين، الموقد، الدست النحاسي والأواني.... تربّعت جميعها على لوحاته الجديدة.
ويقول علي صالح: «بدأت بيوت الطين تندثر في القرية»، لذا هو بصدد مشروع بناء منزل من الطين بالمواصفات التراثية القديمة من السقف الترابي والجسور الخشبية القديمة.....، التبانة (مخزن التبن)، بايكة (مرقد للحيوانات)، إسطبل، تنّور... يقوم يومياً بالتجوال في ذاكرة المسنين ذكوراً وإناثاً والسؤال عن كل شاردة وواردة في حياة الضيعة القديمة، وعلى هذا الأساس يقوم بالتعاون مع بلدية بريتال بشخص رئيسها عباس زكي إسماعيل ببناء البيت الموعود التراثي.
جمع المئات من القطع التراثية، كل أدوات الفلاح القديمة التي يزيد عمرها على 100 سنة من نير، مساس، وصِمد... إضافة إلى أجراس القطيع، وجرون حجرية للكبة، وجاروشة، وجرون حجرية للماء، وآلات الخياطة، وراديو وتلفزيون، وثياب العروس القديمة من رأسها إلى أخمص قدميها مع أدوات الزينة.
يجيد الرسم الزيتي والمائي، والكاريكاتور، والنحت، والزراعة، وكتابة الشعر والنثر... تنوعت موضوعات لوحاته، فجسّد الطبيعة بشراً، وعبّر عن معاناة الإنسان للكوارث الطبيعية والحزن والفرح...

قصة البدايات
عندما كان علي في سنوات الدراسة الأولى طلبت منه والدته الحاجة فاطمة صالح أن يرسم «كسرولة» (من أواني سكب الحليب) فلم يستطع بداية، ساعدته في ذلك، ورسمتها أمامه، وصار يرسمها من بعدها على الورقة نفسها.
تعلّم علي في بيروت وأنهى دراسته الثانوية، وأبدع في حصص الفنون، ويتذكر أنه في السادسة من العمر، قدم لأستاذ الرسم (المصري الجنسية) لوحة صغيرة صوّرت القرية وراعي الغنم يرعى قطيعه فوجدت اللوحة صدى واستهجاناً لدى الأساتذة وأثنت الإدارة على هذا العمل. ويقول صالح: «منذ طفولتي وأنا أكره القيود، كنت أهرب من المدرسة وكنت ثائراً على كل شيء تقليدي». كان يلعب وحده ويمشي مسافات طويلة وحيداً، عندما كان يمكث في القرية كان يشتاق لبيروت، وحين يعود أدراجه إلى بيروت يجتاحه الحنين للضيعة. سكن منذ الطفولة في حي السلم قرب التحويطة.
ذات يوم مشى على خط سكة الحديد من الحدث حتى بحمدون وكان عمره 13 سنة، فيقول: «غابت الشمس وأنا أمشي وحيداً، إذ إنني رغبت في أن ألامس الثلج الذي ذكّرني بنقاء القرية».
ويروي أيضاً «كانت حفر من الرمل تحيط بمطار بيروت وذات يوم علقت داخل إحداها، فصارعت كثيراً لأخرج لأنني كنت صغير السن».