strong> بيار أبي صعب
بعد أيام تصل ملكة تدمر إلى لبنان. ولا شك في أن المشوار كان طويلاً: من دبي، عاصمة العولمة والمال والضخامة الاستعراضيّة... إلى بيبلوس، المدينة العريقة التي أعلنت تمرّدها على البؤس السياسي الراهن في لبنان، وتمسكت بمهرجانها الصيفي في بلد «على كف عفريت».
زنوبيا أول متمرّدة في الشرق ضد الإمبريالية، كما يقدّمها خالقها منصور الرحباني (من دون أن يستعمل طبعاً العبارة الأخيرة، إذ يراهن على نباهتكم وفطنتكم). ومن ميزاتها الكثيرة القدرة على التكيّف. فالمسرحية الرحبانية التي أقيمت في الأساس على أرض مساحتها سبعون ألف متر مربّع، وأبصرت النور في كنف حكومة دبي السخيّة، مستندة إلى إنتاج بلغ خمسة ملايين دولار (قرية كاملة كانت تحرق كلّ ليلة)، سيكون عليها أن تتأقلم مع مدينة طور إيل الجبيلي التي علّمت العالم الأبجدية... لكنّ مساحتها صغيرة، وإمكاناتها الحالية متواضعة بعض الشيء. ماذا تريدون؟ إنها حركة التاريخ: تقوم ممالك وتنهار أخرى... يعرف منصور ذلك جيداً، هو المعتاد الغوص في كتب التاريخ، ليغرف منها مادة أعماله التي تتوسّل أحداث الماضي وشخصياته، لمخاطبة الحاضر.
وفي رحلة «زنوبيا»، المسرحية «الغنائيّة التاريخيّة الملحميّة» التي يستضيفها «مهرجان بيبلوس» بين 15 و19 الجاري، يرافقه كالعادة شباب العائلة مروان (المخرج) وغدي وأسامة، من دون أن ننسى عمّهم إلياس. وكلهم، بمن فيهم مروان، شاركوا في التلحين والتوزيع. وتوزعت أدوار البطولة على التريو المعتاد أيضاً: كارول سماحة (زنوبيا) وغسان صليبا (قائد الخيالة زبداي) وأنطوان كرباج (أورليانوس، إمبراطور روما)... إضافة إلى يوسف الخال (أُذينة، ملك تدمر القتيل) وبول سليمان (لونجينوس، فيلسوف البلاط) و13 آخرين.
وفي مقر نقابة الصحافة، قدّم الأسد العجوز مشروعه ظهر أمس، متوسطاً النقيب محمد البعلبكي من جهة، وابنه مروان من الأخرى، والإعلامي فيليب أبي عقل نائب رئيس لجنة مهرجانات بيبلوس (الرئيسة هي لطيفة اللقيس)، وعضو نقابة المحررين كمال فضل الله ممثلاً نقيب المحررين ملحم كرم. بعد النشوة الجماعيّة في أداء النشيد، والتحية المجلجلة التي وجّهها نقيب الصحافة إلى شجاعة «بيبلوس» وعظمة العائلة الرحبانيّة، استمعنا الى كبير تلك العائلة يقرأ نصاً عن زنوبيا. صوت منصور نفسه ينقلك إلى زمن آخر («جاءت معذبتي في غَيْهب الغسقِ...»): «التدمرية النحيلة السمراء، زنوبيا الجميلة كصدفة. الخفيفة كغزالة بريّة. استمدّت حبّها للحريّة من رحابة الصحراء، فكانت صرخة التحرر الأولى في الشرق. قالت «لا» لأكبر إمبرطوريّة في التاريخ. علّمتنا أن النساء يتمتعن بقوى خارقة في القيادة والجرأة، ورجاحة العقل، وصلابة الحكم». باختصار: انتخبوا زنوبيا! ولكن من تكون صاحبة «الصرخة العربيّة الأولى في وجه المحتلّ»؟ أين نجدها؟ زنوبيا في المسرحية ستنهزم في النهاية بوجه جبروت القيصر أورليانوس وطغيانه. ولا يعود لنا إلا الرثاء... عسى الاستعراض لا يسحق الباقي بإسرافه.
الاستماع إلى منصور الرحباني يحرك شعوراً خفياً بالحنين، لم يفلت منه النقيب البعلبكي في مستهلّ اللقاء... ثابت في كرسيه، قميصه الأسود يذكّر بعصر السبعينيات الذهبي. يقتصد في الحركة، يلفظ كلماته ببطء. الرجل يقترب أكثر فأكثر من أسطورته. يتودّد للإعلاميين بتجرّد الشيخ وحكمته: «شو ما كتبتوا عَنّا مقبول، المهم الصداقة!». يقول لأحدهم في معرض الردّ: «يا ابني...». لكن لا يحاولَنّ أي منكم أن يتحاذق، لينتزع منه «تأويلاً» للمسرحيّة. مسرحيّة عن الحريّة، عن تمرّد شعوب الأطراف على الإمبراطوريّة، لا يمكن أن نتعامل معها بحياد! إلى من/ ماذا ترمز زنوبيا اليوم؟ من هي «روما» التي تفرض «حضارة الحديد»؟ كيف نطبّق على الواقع الجيوسياسي ذلك الصدام المسرحي ــــ الغنائي ــــ الاستعراضي بين الشرق والغرب؟ لن تنتزعوا من منصور سوى إجابات غارقة في الشعر والتعميم. هل ينسحب العمل على الواقع؟ تسأل صحافية نسائيّة. يرد البطريرك الهادئ: «أنا ما بفكّر هيك. أنا أعبّر عن فكر حرّ ينشد الحريّة»!
كلمة «الحريّة» ترد على لسان منصور بنسبة عشر مرات في الدقيقة الواحدة. من دون أن نعرف كيف نخرجها من هلام التعميم الرخو. يتكلّم عن مقاومة الظلم والاحتلال. لكن حين يُسأَل: «اللبنانيون شعب أم شعوب؟»، يبدو أكثر حزماً: «نحن شعب واحد، منقسم ربّما، وهذا طبيعي بل وله حسناته. لكننا لسنا أعداء بعضنا للبعض الآخر. عدوّنا واحد ومشترك: إسرائيل». نتنفّس الصعداء، ونكتفي بهذا القدر من التصريح. الأربعاء المقبل ستعرّج زنوبيا على أفقا حيث تقدّم الذبائح إلى أمها عشتروت ــــ سيدة الينابيع المقدسة ــــ كي تحفظ تدمر. مساء اليوم نفسه، نذهب جميعاً لاستقبالها، في ميناء بيبلوس.



خمسة عروض ابتداءً من الأربعاء 15 آب / أغسطس
«مهرجانات بيبلوس» : 09،543101