القدس المحتلة ـ نجوان درويش
  • طوابع بريدية من زمن العولمة والبريد الإلكتروني

  • إنه من جيل ولد تحت الاحتلال، وعاش عند حافة «الزمن الإسرائيلي». ومشروعه الجديد الذي ينتمي إلى الفن المفهومي و«الطوباوية الذهنية»، يطرح سؤالاً لعوباً وجارحاً عن التجاور والاختلاف والحوار. ستيف سابيلا ابن القدس، وقريباً يخرج بمدينته إلى «المنفى»

    في عمله الأخير «منتالوبيا» Mentalopia، يبتكر الفلسطيني ستيف سابيلا (1975) مفردة جديدة، اسماً لعمله الذي يتكوّن من بورتريهات فوتوغرافية لمجموعة من أقرانه الفنانين من بلدان مختلفة. كلمة منتالوبيا بخلاف يوتوبيا ـــ التي اشتُقت منها ـــ تتشاكل مع المفهوم المكاني لليوتوبيا، وتراهن على الحالة الذهنية بوصفها اليوتوبيا الوحيدة الممكنة ربما... في الفن على الأقل.
    مزج سابيلا البورتريهات التي التقطها لمجموعة فنانين حول العالم، بطوابع بريدية كأنما يتبادلون عليها بلدانهم. هكذا، نرى الفنانة اللبنانية لميا جريج على طابع بريدي فلسطيني يحمل صورة القدس، فيما نشاهد ستيف نفسه على طابع لبناني. أما بقية الفنانين فقد مزج طوابعهم بشكل عرضي تارةً، وبشكل ينطوي على مقاصد طوراً: وإذا بالفنانة التركية تجد نفسها على طابع أرمني، فيما الفنان الأرمني وجد نفسه على طابع أذربيجاني، وهكذا دواليك... إنها فكرة ارتجاج الهوية، من خلال التلاعب بسكونها الذي تمثله الطوابع البريدية. هنا، يبدو الطابع ــــ الذي هو أصلاً تمجيد لمكونات الهوية ــــ سؤالاً لعوباً وجارحاً عن الهوية والتجاور والحوار. والأفكار هي حصاد ورشة احتضنتها في إسطنبول بعنوان «جيران في حوار»، وشارك فيها 10 فنانين من دول متجاورة، أنتج كل منهم عملاً خلال إقامته التركيّة. وهذه الأعمال ستُقدّم إلى «متحف سراييفو للفن الحديث» الشهر المقبل، حيث سيعرض سابيلا مشروعه «منتالوبيا» مع أعمال الفنانين الآخرين.
    يجمع «منتالوبيا» المستويين البصري والمفهومي. فالحلة البصرية ــــ التقنية للفكرة متماسكة التكوين، بخلاف الكثير من النتاج «المفهومي» conceptual الذي يستسلم هذه الأيام للسهولة والركاكة، ويرتجل «صرعات» غير موظفة فنياً، فضلاً عن الضعف التقني في التنفيذ. الشغل على الطوابع البريدية، هو بحد ذاته مقاربة نقدية لأحد مظاهر الفولكلور في زمن العولمة والبريد الإلكتروني، مقاربة تخلق مجالاً لتوليد أسئلة عن الهوية والحدود والسلطة والهيمنة والزمن. وإذا تذكرنا أن «الإمبراطورية البريطانية» كانت وراء إصدارأول طابع عام 1840، فسنفهم تلك العلاقة الخفية بالتاريخ التي جعلت سابيلا يتطرّق ضمناً إلى فكرة الكولونيالية من خلال طابع البريد.
    والمشروع الذي يستمد نسغه من الطوباوية الذهنية، يطرح أيضاً أسئلة الراهن الفلسطيني، والتشوّق الطبيعي للوحدة والتكامل مع بقية الجسد العربي. وهي هنا أسئلة طبيعية يطرحها فنان خارج الإيديولوجيا، وبعيد كل البعد عن الشعارات. فوضعه مثلاً صورة لفنانة لبنانية على طابع للقدس، يشي بحال التفاؤل التي سادت الشارع الفلسطيني أثناء صد المقاومة اللبنانية للعدوان الإسرائيلي الصيف الماضي. وكذلك الأمر مع وضعه لصورته الشخصية على طابع لبناني عن «مباراة بطولة البريدج» يعود إلى عام 1965. لكنّ سابيلا تلاعب في تاريخ الطابع؛ إذ حوله في السطر المكتوب بالعربية إلى 1975 أي تاريخ ميلاده هو، بينما حافظ على السطر الأعلى بالفرنسية الذي يشير إلى تاريخ الطابع الأصلي.
    Mentalopia جاء ليعكس أحد الأسئلة الأثيرة لدى هذا الفنان، ألا وهو سؤال الهوية القلقة: منذ معرضه الفوتوغرافي الأول «بحث» (1997) والثاني «هوية» (2001)، بدا سابيلا مشغولاً بفكرة الهوية والبحث عنها في زمن الاستلاب و«الأسرلة» التي تعرّض لها جيل من الفلسطينيين ولدوا تحت الاحتلال ــــ وخصوصاً في القدس ــــ وعاشوا عند حافة «الزمن الإسرائيلي» الذي لم تُدرس بعد تأثيراته السوسيولوجية والنفسية على المجتمع الفلسطيني.
    في السنوات الخمس الأخيرة، وصل ستيف إلى تحوّلين في أعماله، الأول على مستوى المضمون. إذ ظهر الموضوع الجمعي أو الوطني في أعماله... وبدا كأنّه خرج من ذاتية أعماله الأولى. ولا شك في أنّ ذلك يرتبط بتطور وعيه السياسي، بعدما دفعته أعماله الذاتية لأن يكون جزءاً من المشهد الفنّي الفلسطيني.
    في «حتى النهاية... روح المكان» (2004)، جمع أحجاراً من مناطق من القدس، يشعر بأنّها مناطقه الشخصية. ثم التقط صوراً من تلك الأماكن، وقام بتظهير الصور على الأحجار التي عرضها مرفوعة (مصلوبة؟) على قضبان حديدية. بعدها قدّم مشروعاً بعنوان «كان ياما كان» (2005)، يستلهم فكرة «صندوق العجب»: خمسة صناديق مستطيلة في كل منها عرض صوراً تروي حكاية محددة، على المتلقي أن ينظر إليها من الثقب. وكي يؤكد البعد الشعبي والجمعي لصناديقه، طلب الفنان من خمسة تشكيليين مختلفين أن يرسموا الحكاية على سطح الصندوق.
    أما التحوّل الآخر فكان فنياً. إذ راح يتجاوز نفسه ويخرج من دور «المصوّر الفوتوغرافي»، ليتّجه في أعماله أخيراً نحو «فن مفهومي» conceptual art تمثّل فيه الفوتوغرافيا وسيطاً لتنفيذ الفكرة. هكذا، لم تعد الفوتوغرافيا إلا وسيطاً كما لاحظنا في عمله Exit (مخرج ـــ 2006). قدّم سابيلا في «مَخرج» سلسلة صور تظهر أيدي نساء مسنّات (التقطها في مستشفى في ايرلندا)، عُرضت عبر «البروجيكتر» على جدار أبيض في الليل. بدت تجليات الأيدي مثل منحوتات من شغل الزمن، ووثائق لها إحالات اجتماعية وطبقية. وهو عمل صادم وقاس يخرج على الشغل الجمالي الذي وسم عمله منذ البداية.
    لكنّ «إشكاليته» الكبرى تبقى مدينته القدس التي يعدّ حقائبه لمغادرتها إلى لندن لإكمال دراسته، أو لأنّه وصل إلى شعور بأنّ «مدّة صلاحيته» انتهى في هذه المدينة التي أقنعنا أنّها الآن في المنفى! «القدس في المنفى» فكرة مشروع جديد يعمل عليه سابيلا، بالتعاون مع كاتب هذه السطور، تُسقط مفهوم المنفى على المكان، وتذهب إلى تقصّي «صورة القدس» في المخيلة الفلسطينية والعربية أيضاً. يطلب «القدس في المنفى» من جميع مَن يمنعهم الاحتلال مِن بلوغ القدس، أن يسجّلوا أول صورة تتبادر إلى أذهانهم عند ذكرها، ويرسلوها بالايميل إلى موقع المشروع (www.jerusalem-in-exile.net). وسيحوّل سابيلا الوصف إلى صور فوتوغرافية. ومن المفترض أن تمثّل التجربة نواة مشروع مستمر لدراسة صورة القدس. تلك الصورة الإشكالية المحمّلة برمزيات الجغرافيا المقدسة كلّها، وبحيوات ضائعة وزفرات منطقة بأسرها... صورة القدس المحملة أيضاً وأيضاً بفولكلور هائل من الخطابة والشعارات؛ فيما الاحتلال يوغل في هوسه بالاستحواذ عليها، شبيهاً بجرذ ضخم يقضم أصابع طفلة نائمة، وهو يغني لها بصوت عال «أورشليم من ذهب»!