شيرين الفايدي
منذ ستينيات القرن الماضي، تبدّلت المنطقة العربية. مرّت حروب، وعصفت تحولات، وتعاقبت انهيارات وهزائم. لكن حمدي قنديل لا يزال هنا، متمسكاً بقضايا الأمة، ومؤمناً بالمقاومة. مقدم «قلم رصاص» (فضائيّة «دبي») يعود إلى الشاشة أوائل الشهر المقبل، مستأنفاً ثورته على واقع «زيّ الزفت»

يقال إن المثقفين العرب يبدأون ثوريين في سنّ الشباب، ثم يصبحون محافظين في الكهولة... لكن حمدي قنديل، أحد أبرز إعلاميي «جيل الستينيات في مصر»، ظلّ لأكثر من أربعين عاماً (عمره المهني)، ثورياً محترفاً، يضع يده على الزناد، ليطلق رصاص نقده على الجميع. لم يتراجع عمّا يؤمن به، فلم ينتقل من «اليسار» إلى «أقصى اليمين»، مثلما فعل بعض أقرانه. ولم يدخل في سلسلة «تنازلات»، اندماجاً مع «الأمر الواقع»، مثلما حدث مع كثيرين. في لقائه مع «الأخبار»، يتحدث الإعلامي المشاغب عن برنامجه «قلم رصاص» الذي يعرض على قناة «دبي»، وعن المشهد الفضائي العربي والراهن السياسي في المنطقة.
بعدما أوقف عرض حلقات «قلم رصاص» الأسبوع الماضي، يأخذ استراحة محارب هذا الشهر، يقضيها مع زوجته الفنانة نجلاء فتحي في ربوع مصر، ويعود إلى الاستديو أوائل الشهر المقبل. حين نسأله عن ضرورة التغيير والتجديد في الموسم المقبل، خصوصاً أنّ برنامجه يبدو على حاله منذ بدأ عرضه قبل ثلاث سنوات؟ يجيب: «التجديد مهمّ بين الحين والآخر، لكنني لا أميل إلى التغيير. أتصور أن شكل البرنامج مقبول عند الناس، فهو يتجدد أسبوعياً بمحتواه، ومادته الإخبارية المتغيرة. كذلك الجمهور يتابع البرنامج بسبب مضمونه لا شكله».
وماذا عن الموضوعات التي سيفتتح بها الموسم المقبل؟ «البرنامج حدثي، ينطلق من الراهن السياسي. لذا، لا يمكنني منذ اليوم أن أحدد ما سنناقشه بعد ثلاثة أسابيع، المنطقة العربية تشهد تطورات ساخنة يومياً، والمتغير هو الحدث». لكن ماذا عن الانتقادات التي تقول إنّ «قلم رصاص» هو نفسه برنامج «رئيس التحرير» الذي كان يقدّمه سابقاً في مصر؟ يشير قنديل إلى أن «قلم رصاص» هو امتداد لـ «رئيس التحرير» في التلفزيون المصري و«مع حمدي قنديل» على شاشة art. ويوضح: «لا شكّ في أن قوالب البرامج السياسية محدودة، ولا تزيد على أربعة أشكال على أقصى تقدير: ضيفان يتواجهان في الاستديو، أو أربعة يتناقشون حول طاولة مستديرة، أو عن طريق القمر الصناعي أو الهاتف. ما أقدّمه ليس ابتكاراً، والحقيقة أنتِ أول من يحدّثني عن شكل البرنامج».
بعيداً من الشكل، نسأله عمن يأخذ عليه استخدام اللغة السياسية التي كانت سائدة في الستينيات والسبعينيات وحتى في الخمسينيات؟ («المقاومة المسلحة»، «التحرير»...). يجيب راسماً على وجهه ابتسامة صفراء: «هي سخرية هذا الزمن، يتهمون مَن يتمسك بقيم الأمة باستخدام لغة خشبية! أنا متمسك بهذه اللغة منذ بدأت العمل الإعلامي عام 1960، والسبب ببساطة أن قناعاتي لم تتغير حتى الآن، ولست مستعداً لأبدّل وجهة نظري حتى أسعد فئة من الجمهور... منذ الستينيات، أؤمن بالثورة وعبد الناصر، وما زلت». من هنا، يؤكد قنديل أن الخطاب الإعلامي في الستينيات، كان إعلامياً مقاوماً، فيما تروّج الشاشات العربية اليوم، لخطاب معاكس، يكرّس الإعلام الانهزامي، مستخدماً لغة بلاستيكية، تتشكل حسب المناسبة والمنفعة.
وردّاً على من «يتهمه» بالانتماء إلى مدرسة أحمد سعيد و«إذاعة صوت العرب»، خصوصاً أن هناك مَن يشدد على فشلها، ومساهمتها في هزائمنا بشكل أو بآخر.. يجيب: «نعم ولا في الوقت عينه! أنتمي إلى مدرسة أحمد سعيد بمعنى المضمون السياسي. ولا، لأنني أبتعد عن أدائه، خصوصاً أن الفرق بين الإذاعة والتلفزيون شاسع جداً. المذيع ينتهج أسلوب الصوت العالي، إذ يخيل إليه أنه يخاطب الملايين، وهم يسيرون في تظاهرة. أما على الشاشة، فيضع المقدم نصب عينيه أنه يخاطب أناساً جالسين في الصالون، لذا يبتعد عن النبرة العالية في حديثه. في المقابل، مَن قال إن الغالبية العظمى ترى تجربة أحمد سعيد فاشلة. لا يزال هناك من يدافع عنها... بعد أربعين عاماً على النكسة، علا صوت الهزيمة، والدعوة إلى الاستسلام، فيما كان إعلام 67 يحضّ على المقاومة، وهذا أكثر ما نحتاج له اليوم».
لكن بعضهم يرى في المنطق التجييشي والتعبوي الذي ينتهجه قنديل، انعكاساً لليأس والقنوط، على أساس أنه يرى كل شيء سيئاً، وأن الأنظمة والمسؤولين فيها غير صالحين، وأن جميع السياسات العربية عبثية! يجيب: «بالطبع ليس كل شيء سيئاً، إنما الأغلب هو كذلك. لا شك في أننا نعيش حالة انحدار لا حدّ لها! أتعلمين، أول خطوة في طريق الإصلاح تكمن في أن يعرف الناس حجم الكارثة التي تحدق بنا، وأن وضعنا اليوم «زي الزفت». ثم علينا البحث عن فسحة أمل، وإن كانت صعبة المنال في العالم العربي... نحن لا ندرك حجم المأساة التي نعيشها، والأسوأ أننا لا نفكر في الحلول، وإن فعلنا فهي حلول قصيرة المدى. على رغم كل ما نعانيه، نجد أن همَّ المسؤول في الوطن العربي هو صورتنا أمام الضيوف! في أكثر من بلد، تجدين مناطق عشوائية على طريق المطار، فيعمل المسؤول العربي على بناء سور مرتفع حتى يحجب هذا المنظر النافر عن ضيوف الدولة. أما في الداخل فيعيش أناس «مطحونون» كيفما اتفق».
ومن أين إذاً يخرج الحل؟ يجيب بصوت عال: «الثورة! هي واجب على العاملين في مجالات الفنون والفكر والإبداع: الحضّ على التغيير لما يرونه الأفضل. والأفضل في وجهة نظري ليس الأفضل من وجهة نظرك، لكننا على الأقل نبقى مخلصين لمحاولة التغيير». وهل هذا يعني أن يكون الجميع «حماس» أو «حزب الله»؟ «ليس بالضرورة، فالإصلاح يتخّذ أشكالاً مختلفة. إنما أطالب بمقاومة مسلّحة تقف في وجه العدو. علماً أن هناك ظروفاً خاصة بكل بلد، فأنا لا أستطيع أن أزعم بأن الحكم في مصر يشبه نظام أي بلد عربي آخر، وأن هذا النظام وحده المسؤول عن مأساة الشعب. الحق يقع أيضاً على هذه الشعوب التي تسهم أيضاً في تضخيم مأساتها عبر سلبيتها وتراخيها».




النظّارة السوداء

يرى حمدي قنديل أنّ المشهد الفضائي العربي اليوم تبدّل كثيراً عما كان عليه في السابق، «في الفضاء المفتوح، لم يعد أحد قادراً على التحكّم في المشاهد الذي بات يختار ما يريد متابعته والمذيع الذي يثق به... التلفزيون يتمتع بجاذبية خاصة: وجه المذيع يؤثر كثيراً في المشاهد. والناس ينجذبون إلى المقدم، إذا شعروا بصدقه، بصرف النظر عن كونهم متفقين معه أم معارضين له... أسوأ ما في التلفزيون هو التصنّع، والمشاهد العربي محترف، يعرف جيداً كيف يميز بين الصادق والكاذب. وسرّ اللعبة يكمن في شحنة العواطف الإيجابية أو السلبية التي تكمن بين الطرفين».
يؤكد قنديل أنه لم يصطدم رقابياً مع تلفزيون «دبي»، ولم يطلب منه مرة أن يحذف فقرة، أو يحجب ضيفاً، «لم أشعر بأي قيود، حسبي أنني أسجل برنامجي قبل موعد بثه بساعتين، ولم يسبق أن طلب أحدهم قراءة المادة المعدة للبث. وقد سبق أن تحدثنا في البرنامج عن مشاكل العمالة الخليجية، وناقشنا تجربة الانتخابات في الإمارات بشكل موضوعي». إذاً ما من خطوط حمراء؟ يعترف: «لكل قناة تلفزيونية خطوط حمراء، إنما برنامجي يطرح آراءً كثيرة لا تتطابق مع السياسة الخارجية للبلد».
في النهاية، يشير قنديل إلى أن ثمة تجارب إيجابية يشهدها العالم العربي، «إنما تمرّ كالنيازك. لا نراها لأننا نرتدي نظارات سوداء، لكن لا يمكن إنكارها: قيام ملك المغرب بإنشاء لجنة تحقق في انتهاكات حقوق الإنسان، نجاح تجربة الإدارة في دبي التي تضم مجموعة من الشباب الإماراتي ذوي الكفاءات العالية، التوطين في سلطنة عمان حيث يعمل العماني كسائق تاكسي فيما يرفض الكويتي مثلاً أن يمارس هذه المهنة، انتشار مجتمع المعلوماتية في الأردن، وأخيراً صمود الشعب الفلسطيني في مأساته يعدّ إنجازاً تاريخياً».


«قلم رصاص» ابتداءً من أيلول (سبتمبر)، كل جمعة 21:30 على «دبي»