strong>محمد خير
لم يعد ذلك الشاب النحيل يكتفي بالجلوس ساعات أمام شاشة الكمبيوتر. اكتشف فجأة أنّ الشبكة العنكبوتية لا تحلّ القضايا المصيرية. فنزل إلى الأرض، «مدجّجاً» بأحدث تقنيات الاتصال، ليخوض معارك شرسة في السياسة والبيئة والجنس والحرب... هل يصمد شباب
الإنترنت طويلاً ضدّ الحكومة؟

«الإنترنت يدفع الشباب إلى العزلة»، والغرفة مظلمة إلا من شعاع خافت لشاشة الكمبيوتر، يضيء وجه الشاب ذي النظارات الطبية... هذه الصورة النمطية التي كانت صحيحة في عمومها، تتغير ببطء، لكنها تتغيّر. وكلما توالت أيام الألفية الثالثة، تكاملت بصورة مدهشة وسائل الاتصالات والمعلومات الحديثة: الكمبيوتر، الإنترنت، الموبايل، الساتلايت، كاميرات الديجيتال، الفلاشات، ناقلات الداتا، الـ«آي بود»... لتصنع عالماً يستحيل إخضاعه من أي سلطة، ولا يمكن احتواؤه من وسائل الإعلام الكبيرة الراسخة. والأهم، أنه عالم يدفع بذلك الشاب النحيل، «متعاطي» الإنترنت، إلى الشارع حيث يعترض على سياسات، لم يشارك في إقرارها، لكنها تدمر عالمه. ينزل إلى الشارع محملاً بكاميرته الرقمية، وكمبيوتره المحمول، ليواجه البوليس وقوات الشغب التي كانت تظن أنه لن يخرج يوماً من عزلته. عبر خيط ممتدمن الشمال إلى الجنوب، بموازاة غرينتش، يتحرك ناشطو الإنترنت بقوة أفكارهم. في بريطانيا وفي مصر، ظهرت في توقيت واحد تقريباً، نشاطات سياسية فاعلة ترتدي ثوب التقنية الحديثة. وفي الوقت نفسه أيضاً، اكتشف الناشطون هنا وهناك أن نضال الـ chat لا يكفي، فخرجوا ليعطّلوا مصنعاً ملوثاً للبيئة، ويواجهوا فتنة طائفية، ويحاربوا التحرش الجنسي، ويراقبوا الانتخابات... هكذا، وبمراعاة خصوصية كل مجتمع، تربط العديد من الصفات المشتركة، بين مجموعة Undercurrents البريطانية، ونشطاء الإنترنت في مصر وأشهرهم وائل عباس، رئيس تحرير صحيفة «الوعي المصري» على الإنترنت.
من هنا، يلعب الموقعان الوظيفة نفسها تقريباً: فـ www.undercurrents.org يستضيف مقاطع الفيديو والأفلام القصيرة والطويلة التي تقدم ما لا تسمح به وسائل الميديا الكبيرة المستقرّة إلى شبكات لانهائية من المصالح والحسابات. يعدك الموقع بأن ترى ما لن تراه إلا على ذلك العنوان الإلكتروني، كما يؤكد الشعار: «the news you don’t see on the news». هنا، ترى القمع الذي تمارسه الشرطة البريطانية على احتجاجات المتظاهرين ضدّ العولمة، أو المطالبين ببيئة صحية. قمعٌ، مهما تمادى به البريطانيون، فإنه لا يقارن بذلك الذي يميّز المواجهات في التظاهرات المصرية. هذه يمكن رؤيتها على موقع وائل عباس www.misrdigital.blogspirit.com. في «الوعي المصري»، أرشيفٌ كامل وهائل لكل الاحتجاجات والنشاطات السياسية المصرية خلال السنوات الثلاث الماضية: تظاهرات حركة «كفاية» والتيارات المنبثقة منها، ثم النشاطات التي باشرها المدونون أنفسهم، وتعرّض عدد منهم للاعتقال والسجن خلال العامين الماضيين، أثناء مشاركتهم و«تسجيلهم» لأحداث احتجاجات القضاة المصريين، أو المشاركة في تظاهرات حركة «شباب من أجل التغيير». تلك المشاركة الفاعلة على الأرض، لم تكن السلطات تتوقعها من شباب الإنترنت المصري، كذلك لم تتوقع السلطات البريطانية ما فعلته undercurrents في لندن. إذ فاجأ أعضاؤها الجميع، باقتحامهم شركة «شلّ» للبترول وهم «مسلّحون» بجهاز كمبيوتر محمول وكاميرا رقمية وهاتف جوال. وأثناء تحرّكهم الاحتجاجي على سياسات الشركة العملاقة، قطعت الشرطة الماء والكهرباء عن المكان. لكن الناشطين نقلوا عبر أجهزتهم وقائع اعتصامهم على شبكة الإنترنت، واستطاع زوار الموقع ـــــ على الهواء مباشرة ـــــ متابعة وقائع اقتحام الشرطة البريطانية لمقر الاعتصام.
طبعاً تحتاج الفعاليات الاحتجاجية لنشطاء الإنترنت المصريين إلى شجاعة أكبر من التي يبديها زملاؤهم في أوروبا، فالاعتقال في مصر يعني اعتقالاً، لا مزاح فيه. وقد يتحول إلى دعوى قضائية وسجن وغرامة، فهو ليس مجرد احتجاز كما الحال في بريطانيا. ومع ذلك، لا يستطيع النشطاء المصريون حتى على موقع شهير جداً مثل «منال وعلاء» www.manalaa.net، أن ينقلوا الأحداث على الهواء مباشرة، لأن سعة حزمة البثّ والاستقبال في الإنترنت المصري المعتمد على أسلاك الهاتف، أقلّ بكثير من سعة وإمكانات الإنترنت في أوروبا. لذلك، ترى الحدث في بريطانيا لحظة بلحظة، فيما تتابعه في مصر مسجّلاً، وأنت تعرف النتيجة مسبقاً.
لا يقتصر الفارق على النقل الآني، بل تقيم هذه المجموعات مهرجانات سنوية، تعرض فيها لقطات ومقاطع وأفلام الفيديو التي تصلها من كل مكان. وهذا لا يبدو سهلاً في مصر التي احتضنت قبل أشهر مهرجاناً هو الأول من نوعه لأفلام الموبايل. وبين الإنترنت والموبايل، كان ما أطلق عليه «كليبات التعذيب» نجمة المرحلة: لقطات فيديو نشرها على الشبكة ناشطون، قالوا إنها وقائع تعذيب في مخافر مصرية. وبسببها، فتحت النيابة المصرية التحقيق مع بعض الضباط وأحالتهم على المحاكمة. هذا الصراع ضد الدولة الذي يميز نشطاء الفيديو والإنترنت المصريين يختلف عن الصراع الذي يهتم له البريطانيون. أولئك الذين يعيشون في بلاد حقوق الإنسان، يخوضون مواجهات من نوع آخر ضدّ الشركات التي تحكم العالم. هكذا تبثّ مجموعة undercurrents أغنية يسمعها متصفّح الموقع، متفائلةً ربما أكثر من اللازم، وتقول: «إننا نرقص فوق حطام الشركات الدولية الكبرى».