strong>عثمان تزغارت
  • الروائي الإشكالي لا يستحمُّ بماء الحوض مرّتين


  • الحفاوة التي استقبلت بها «وليمة الأكاذيب» وحّدت ضفتي المتوسط، وحتى رشيد بوجدرة وجدها «رواية مُبهرة»! يوقّع أمين الزاوي هنا روايته «الفرنسية» الخامسة، ولعلّه أول كاتب جزائري يتجاوز عقدة الازدواجية اللغويّة. من هو هذا الأديب الذي تخرّج من جامعة دمشق وأحرق الإسلاميون كتبه في سيدي بلعبّاس؟

    الذين نظروا إلى الروائي الجزائري أمين الزاوي بعين الاستغراب أو التحفظ أو الاحتجاج ــــ وهم كثر ــــ حين قرّر في منتصف التسعينات خوض تجربة الكتابة بالفرنسية، يجب عليهم أن يراجعوا مواقفهم بعد قراءة روايته الأخيرة «وليمة الأكاذيب» الصادرة عن منشورات «فايار» المرموقة في باريس.
    هذه الرواية هي العمل الخامس الذي يكتبه صاحب «السماء الثامنة» باللغة الفرنسية، منذ «صمت الميموزا» (1998) التي نقلها إلى الشاشة السينمائي سعيد ولد خليفة. وقد قوبلت «وليمة الأكاذيب» بالحفاوة النقدية نفسها على ضفتي المتوسط، وهو إجماع غير مسبوق في الحياة الثقافية الجزائرية، حيث يتم التعامل مع قضية الكتابة باللغة الفرنسية بكثير من الحدة والتشنج. فكيف بالأحرى والكاتب الذي تحوّل إلى لغة موليير هو من مواليد الاستقلال، وأستاذ الأدب العربي المتخرّج من جامعة دمشق؟!
    تدور أحداث الرواية في إحدى قرى الغرب الجزائري، في فترة تاريخية عاصفة بالتحولات تمتد من انقلاب العقيد بومدين على الرئيس بن بللا في الجزائر، في حزيران (يونيو) 1965، إلى نكسة 67. وهي الفترة التي يرى بطل الرواية كسيلة النمس أنّها كانت إيذاناً بتشكّل مخزون الحقد، ونذيراً بالموت الذي ما زالت تتوالى فصوله حتى الآن...
    مع ذلك، فالأمر هنا لا يتعلّق برواية تاريخية بالمفهوم الكلاسيكي. السياق التاريخي ليس أكثر من خلفية، أو إطار عام، ليوميات بطل الرواية «كسيلة النمس» الذي ينظر إليه الجميع بعين الريبة والتوجس. فهو يأكل بيده اليسرى، ما يعدّ محرماً على المسلمين، ولم يعتده سكان القرية إلا من الأوروبيين واليهود. فضلاً عن ذلك، فهو مولع بكتب الإفرنجة، من جورج باتاي إلى فلوبير، ومن بودلير إلى هنري ميلر. ومن غرائب طبائعه أيضاً أنّه يكن كراهية شديدة للعسكر، لا يضاهيها سوى حبّه اللامحدود لـ«النساء الناضجات»، ما يدفعه إلى علاقة محرّمة مع خالته (شقيقة أمّه التوأم) لؤلؤة. وهي العلاقة التي تتفنن الرواية في سبر أغوار متعها الغريبة وملذاتها السرية.
    لكن لا تبحث هنا، عزيزي القارئ، عن سرّ فضائحي أو إيروسي يفسر رواج الرواية. أمين الزاوي لم ينتظر حتّى هذه الرواية، وهي عمله الأدبي الـ 12ولا كان يحتاج للانتقال إلى الفرنسية، ليخوض في المحظور. روايته الأولى «صهيل الجسد» التي أصدرها طالباً شاباً في دمشق عام 1985، فجّرت فضيحة مدوّية جعلت الرقابة السورية لا تكتفي بمصادرتها وسحبها من السوق، بل سجنت ناشرها وأقفلت «دار الوثبة» التي أصدرتها.
    أما في روايته الثالثة «السماء الثامنة» التي أصدرها في وهران، مطلع التسعينات، فقد أثار أمين الزاوي حفيظة متطرّفي جماعة «التكفير والهجرة»، فأحرقوها في ساحة عمومية في مدينة سيدي بلعباس. وكان قد سبق للجماعة ذاتها أن أصدرت فتوى بإهدار دم الزاوي، مطلع الثمانينات إثر دراسات نشرها عن موسيقى الراي، وبالأخص عن شيخة ريميتي، رائدة هذا الصنف الغنائي الذي عَدَّه المتطرفون «فنّاً مارقاً».
    لكن ما كان مجرد تهديد خطابي أو تحرش كلامي في الثمانينات، تحوّل خطراً داهماً بحلول التسعينات. ولم ينجُ أمين الزاوي، إلا بأعحوبة، من محاولة تفجير سيارته عام 1992، بينما كان يهمّ بمغادرة عمله في مكتبة وهران الجهوية التي كان مديرها آنذاك. وتحت وطأة التهديدات التي استهدفته والعديد من أقرانه المثقفين والفنانين في الجزائر، اختار كاتبنا المنفى، وانتقل إلى فرنسا برفقة زوجته الشاعرة ربيعة جلطي وابنتهما لينا. هكذا استقر في مدينة Caen (شمال النورماندي)، وحصل على منحة من «البرلمان الدولي للكتاب» الذي كان يرأسه آنذاك الروائي سلمان رشدي، ثم التحق بالتدريس أستاذاً للأدب المقارن في «جامعة السوربون الثامنة».
    ويعود الفضل في دخول أمين الزاوي معترك الكتابة باللغة الفرنسية إلى الناشر بيار أستييه (منشورات Serpent à plume). تعرّف هذا الأخير إلى أعماله من طريق الكاتبة إيلان سيكسو (عضوة الأكاديمية الفرنسية)، بعدما نشر أمين الزاوي بالاشتراك معها بحثاً خاصاً عن «ثقافة المضجع» من خلال ألف ليلة وليلة! وبتشجيع من أستييه، وُلدت أولى روايات الزاوي المكتوبة بالفرنسية «صمت الميموزا» (1998) التي اقتبس منها سعيد ولد خليفة فيلمه «شاي من أجل غنية» عام 2004.
    توالت بعد ذلك أعمال أمين الزاوي، سواء الروائية منها، كـ«الاستسلام» (1998) و«قوم العطر» (2001) و«إسطبل النساء» (2002)، أو الأبحاث والتحاليل الفكرية كـ«إمبراطورية الخوف: مدخل إلى ثقافة الدم في الجزائر والعالم العربي» (2002)، و«ثقافة العنف في الجزائر: فتاوى، نساء، محظورات وسلطة» (2003) و«فتوى من أجل شهرزاد وحكايات أخرى عن الرقابة اليومية» (2004).
    خلال ذلك، لم يلتفت أمين الزاوي إلى حملات التخوين، ولم يأبه بمن رأوا في خوضه تجربة الكتابة بالفرنسية ردّةً وانسلاخاً، بل استمر في الكتابة باللغتين العربية والفرنسية معاً، مؤكداً أنّ الحدس وكيمياء الإبداع الخفية وحدهما يمليان على قلمه إن كان عليه أن يسير من اليمين إلى اليسار أو بالعكس. هناك قاعدة واحدة فقط، فرضها هذا الكاتب على نفسه: ألّا يُترجم بنفسه أياً من أعماله من لغة إلى أخرى. وقد برّر ذلك بقوله: إن المرء لا يجب أن يستحم بماء الحوض ذاته مرتين!