strong> فرح داغر
  • الرحابنة الجدد في دوامة «الشرق الأوسط الجديد»


  • كل إطلالة جديدة لمنصور الرحباني هي عيد ثقافي لبناني وعربي. وحضوره مع أبنائه هذا المساء في «مهرجان بيبلوس»، حيث ينطلق العرض الأوّل من «زنوبيا»، حدث استثنائي بلا شك. ولأن منصوراً قامة كبيرة، فلا بد من أن يكون النقد على مستوى الحدث أيضاً. من هنا السؤال المشروع الذي يفرض نفسه: ماذا بقي اليوم من المؤسسة الرحبانيّة؟

    إلى لبنان وصلت ملكة تدمر أخيراً، آتيةً من دبي، حيث أبصرت النور على يد منصور الرحباني وأبنائه، في نيسان (أبريل) الماضي... زنوبيا الرحبانيّة تحطّ رحالها في ميناء بيبلوس القديم تحديداً، حيث يرتفع الستار هذا المساء عن العرض الأول لأحدث إنتاجات الرحابنة، ضمن سلسلة عروض، تستضيفها «مهرجانات جبيل الدوليّة» حتى نهاية الأسبوع (١٥ ــــ ١٩ آب/أغسطس).
    في المكان نفسه، قبل عامين، قدّم الرحابنة ــــــ لنقل «الرحابنة الجدد» لتمييزهم عن المدرسة الرحبانيّة التاريخيّة ــــــ مسرحيّة «جبران والنبي». وها هو منصور يعود إلى كتب التاريخ والأدب، ليغرف مادة غنية ومثيرة لاستعراضه الضخم، مخاطباً الراهن «القومي» من خلال شخصيات الماضي وأحداثه. مسرحيّة «زنوبيا» التي تعاونت عليها الأسرة الرحبانيّة، تأليفاً وتلحيناً وتوزيعاً وإخراجاً، تعيد تسليط الضوء على سؤال راهن: ماذا بقي من المؤسسة الرحبانية اليوم؟ وهل تراث الأخوين الرحباني العريق، أي الصيغ والأشكال والقوالب واللغات والأنماط الجمالية... التي ابتدعت في عصر ذهبي مضى (شهد ذروة أوهام الوطن والصيغة وبناء الدولة الحديثة والتمايز عن المحيط)، ما زال قادراً على العيش في زمن التحولات والانهيارات والمصائر المعلقة؟
    زنوبيا استحضرها الرحابنة للمرّة الأولى عام 1971، على شكل «اسكتش» أدّته فيروز ضمن مسرحية «ناس من ورق» خلال «معرض دمشق الدولي». والشخصيّة تتّسع لكل أنواع الإسقاط السياسي، على خلفيّة تمتدّ من روما القديمة إلى القوى الاستعماريّة الجديدة. وقد استعاد منصور وأبناؤه هذه الشخصيّة المحمّلة بالأبعاد الرمزيّة. زنوبيا المقاومة التي كانت أول قائد في الشرق يقول: «لا» للطاغية، انبعثت في دبي على يد منصور وأبنائه. وضع الرحباني الأب الأساسات، وشاركه في صياغة الاستعراض مروان المخرج، وغدي وأسامة، وعمّهم الياس. وكلهم ساهموا في التلحين والتوزيع.
    الولادة كانت في دبي إذاً، حيث الإغراءات الإنتاجية المعروفة، على مسرح «مدينة دبي للاستديوهات»، وهو أضخم مسرح في الشرق الأوسط إذ تبلغ مساحته 70 ألف متر، وكلف الإنتاج الأساسي حكومة دبي خمسة ملايين دولار أميركي. هذا المساء سيشاهد الجمهور نسخة أخرى من العمل، ضُغِط فيها الجانب الاستعراضي إلى حدّه الأدنى، بعدما كانت المسرحية الأصلية تشهد إحراق مجسّم كامل للقرية كلّ ليلة في دبي، فيما الخيول تسرح على الخشبة، ويطلق المنجنيق الحقيقي نيرانه.
    وهذا أفضل للعمل ربّما. جوهره هو نفسه، جمالياً وموسيقياً وفنياً، وخطابه لن يتغيّر. كارول سماحة هي زنوبيا، ملكة تدمر التي جلست على العرش بعد اغتيال زوجها، وصار بلاطها ملتقى الشعراء والفلاسفة وملجأ للمضطهدين. ومن ذلك البلاط، انطلقت شرارة التمرّد الأولى على الإمبراطورية الرومانية. وقفت زنوبيا في مواجهة أورليانوس قيصر روما (أنطوان كرباج) بجبروته وطغيانه، لتحرّر الشرق من سلاسل العبودية والظلم والطغيان.
    ولا يكتمل المشهد من دون الإشارة إلى حضور غسان صليبا (قائد الخيالة زبداي)، إضافة إلى يوسف الخال (أُذينة، ملك تدمر القتيل) وبول سليمان (لونجينوس، فيلسوف البلاط)، ونادين الراسي (كليوباترا القابعة في ضمير زنوبيا)، و١٢ ممثلاً آخرين، إضافة الى عدد كبير من الكومبارس. وقد أشرفت عايدة صبرا على إعداد الممثلين. ويطلق الرحابنة العنان لحبّهم للدبكة اللبنانية، فيختلقون فسحاً تاريخية متخيّلة لدسّها في سياقات لا دخل لها برقص لبنان الفولكلوري. وقد صمّم الرقصات سامي خوري. وكالعادة مع الرحابنة الجدد، نخاف من الإبهار الاستعراضي الذي يقتل المسرح. أليس المسرح تلك المساحة الحميمة المتقشّفة حيث تتألق الكلمات العارية، والجسد المفرد؟ هذا هو الفخ الذي ينصبه لنا «الرحابنة» (فرع منصور) أحياناً، إذ يحولون حكايات «سقراط» و«المتنبي» و«جبران» و«حكم الرعيان»... الى استعراضات تليق بفرقة عبد الحليم كركلا، أكثر مما تليق بالمسرح. وإلا فكيف نفسّر ذلك الاستهلاك السريع والعابر لأعمال منصور وأبنائه في السنوات الماضية؟ استهلاك لا يتيح لنا أن نخزّن أغاني المسرحيات، كما في زمن تلاقي الثلاثي عاصي ومنصور وفيروز.
    «في عربتي المذهبة أذهب، وفي عنقي أضع السلاسل الذهبية»، سيصدح صوت زنوبيا في ليل بيبلوس. وسيردّ أورليانوس قيصر روما: «تدمر التي انكسرت، وروما التي انتصرت، هما غداً في الآواتي من الأيام حجارة وأعمدة محطمة. وأنا وأنت تمثالان في متحف. فلا جيش روما ولا كل روما في الدهر، بإمكانها أن تُسكِت بعد الآن هذه الصرخة!» إنّها مسرحيّة عن الحريّة، عن تمرّد شعوب الأطراف على الإمبراطوريّة التي تفرض «حضارة الحديد». لكن كيف نطبّق على الواقع الجيوسياسي ذلك الصدام المسرحي ــــــ الغنائي ــــــ الاستعراضي بين الشرق والغرب؟ زنوبيا كما يعرّف بها منصور، صاحبة «الصرخة العربيّة الأولى في وجه المحتلّ». ولعلّها تقدّم اليوم صورة نموذجيّة لـ«مقاومة» المشروع الأميركي الحالي في المنطقة... لكن الرحابنة تجنّبوا أي إسقاط سياسي، في مؤتمرهم الصحافي الأسبوع الماضي («الأخبار» ٨/٨/٢٠٠٧)، كما سبق أن فعلوا ــــــ طبعاً ــــــ في دبي. «كل المسرح الرحباني سياسي» يقولون. هذا صحيح، لكنّه يترك لنا حرية القراءة.
    المنتصر يكتب التاريخ، بينما يجلس منصور الرحباني في غرفة صغيرة ويكتب تاريخنا، البطولات والإخفاقات، العبرة والاعتبار. منصور مثل بطلته، يواجه «الشرق الأوسط الجديد»، لكنّه لا يريد أن يفصح بذلك، تفادياً لإحراجات كثيرة. يريدنا متواطئين سريين معه. نحن نعرف أنّه أمين لتقاليد المدرسة الرحبانيّة القديمة، يصنع مسرحاً مشرّعاً على كل أنواع التأويل.

    «زنوبيا» ـــــ «مهرجانات بيبلوس الدوليّة» من ١٥ إلى ١٩ آب (أغسطس) الجاري
    للاستعلامات والحجز: 542020/09
    www.umam-dr.org www.byblosfestival.org