نجوان درويش
قبل عقد اكتشف نوري الجرّاح الجزائر في دوامة العنف، وعاد منها بنصوص عن الثقافة والموت والتناحر. هذه المرّة يرصد الشاعر السوري نصوص رحالة عرب زاروا بلد الأمير عبد القادر، طوال القرن الماضي، من محمد فريد بك إلى نقولا زيادة

تبدو الجزائر أحد شواغل الشاعر السوري نوري الجرّاح. عام 1998، كان أول المثقفين العرب الذين دخلوها في حمى القتل التي اجتاحت البلاد، فتجول فيها بشكل سريّ راصداً أسباب العنف. وكتب يومذاك سلسلة تحقيقات ميدانيّة، بين الصحافة والنص الثقافي والشهادات الشخصية، نشرها في الصحافة، قبل أن يصدرها في كتاب بعنوان «الفردوس الدامي» (رياض الريس ــــ 2000). وبعد قرابة عقد على زيارته الأولى لـ«الفردوس الدامي»، ها هو يصدر «الأولمب الإفريقي: رحلات عربية إلى الجزائر» (دار السويدي، أبو ظبي ــــ 2007) الذي يبدو موضوعه مغايراً تماماً للوهلة الأولى (مختارات من أدب الرحلة). إلا أنّه وجه آخر للفردوس الدامي، على الأقل ببحثه في المكونات التي ساقت الجزائر لكي تكون على ما هي عليه اليوم.
من خلال عيون رحالة محترفين ومشايخ وكتّاب عرب زاروا الجزائر بين عامي 1901 و2005، يطرح الكتاب مجموعة من الأسئلة عن الجزائر والاستعمار وما بعده، وعن علاقات العرب وأوروبا، المشرق والمغرب العربيين.
لكنّ الجراح، الذي جمع رحلات الآخرين وحررها وقدّم لها، أغفل «رحلته» الشخصية إلى الجزائر، علماً بأنّها قد تكون أكثرها إشكالية، لأنها بحثت في الثقافة والموت والتناحر... فـ«الفردوس الدامي» شهادة عربية فريدة من نوعها عن تلك المرحلة الصعبة في التاريخ الجزائري. هناك أيضاً ثلاث شهادات «غربية» تستحق الذكر، لكتّاب زاروا الجزائر حينذاك: الفرنسييْن برنار هنري ليفي وغلوكسمان، والإسباني خوان غوتيسيلو، علماً بأن الأولين معروفان بمواقفهما الصهيونيّة وتعاطفهما الأعمى مع اسرائيل والترويج لها... ناهيك بالازدراء وتلقين الدروس والوضعية الفوقية إزاء العرب وكل ما هو عربي، أما الثالث فمعروف بتعاطفه مع العرب وقضاياهم، وإعجابه بالحضارة العربية.
يقسم الجراح مختاراته إلى قسمين: «الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي»، ثم «جولات ومشاهدات في الجزائر المحررة». يبدأ القسم الأوّل برحلة إدوار بك إلياس عام 1900، ومحمد فريد بك عام 1901، وهما رحلتان أساسيتان تبرزان التباين الكبير في النظرة إلى الواقعة الاستعمارية: إذ أغفلها إلياس تماماً، بينما نجد محمد فريد واعياً ومتقصياً لمظاهرها بعين مدركة لحجم الظلم.
ويتضمن القسم الأول رحلات للعلامة محمد الخضر حسين عام 1904، والشيخ أحمد حسين المهيري عام 1922 إلى الجزائر، ويبدو واضحاً انشغالهما بالمسائل الفقهية، وابتعادهما عن تناول القضايا السياسية والاجتماعية. ولعل ذلك يعود إلى مناخ الخوف وغياب حرية التعبير، ولا سيما أن صاحبيْ الرحلتين هما من القطر التونسي الذي كان خاضعاً يومها لـ«الوصاية الفرنسية». أما النص الأخير في القسم الأول فهو من يوميات نقولا زيادة عام 1951.
إدوار إلياس (توفي عام 1923) رحالة محترف تميّز بالتقاطه الدقيق للمشاهدات والخصوصيات المحلية. وهناك لديه أحياناً حالات فانتازية، كمشهد موكب ملكة مدغشقر المنفية إلى الجزائر: «وقد حدث أني حانت مني التفاتة، بينما كنت في هذا الحي، فرأيت ملكة مدغشقر في عربة مع تابعاتها من النساء، وهي حبشية اللون يعلم القراء أن فرنسا استولت على جزيرتها بعد حرب شديدة، ونفتها إلى هذه العاصمة من الأملاك الفرنسية، وقد أجروا عليها رزقاً وعينوا لها قصراً تقيم فيه إلى آخر الأيام».
لكننا سنجد أيضاً أن إدوار إلياس طوّف في الزمن الكولونيالي من دون أدنى وعي بالواقعة الكولونيالية. فهو مثلاً يروي قصة تمثال رآه في الساحة العامة في وهران «يمثل حادثة تاريخية هي أنّه لما كانت الحرب سجالاً بين الفرنسيين والأمير عبد القادر صاحب الجزائر في سنة 1845، أحاطت جنود الأمير على كثرتها بشرذمة من رجال الفرنسيس، فصاح القائد الفرنسي برجاله ألا يسلموا وأن يدافعوا حتى الممات، فقتلوا عن آخرهم أبطالاً مجاهدين»... والذي يرى في جنود الاستعمار «أبطالاً مجاهدين»، ما المانع من أن يخبرنا أن بلدة أبي العباس «هي اليوم مدينة فرنسية محضة»، وأن يسطر إعجابه بمدنية الفرنسيين، كأنه رحالة فرنسي ينتمي إلى الثقافة المستعمِرة وليس من الثقافة الخاضعة للاستعمار!
أما محمد فريد بك، فيكاد يكون نقيض إدوار إلياس في وعيه الحاد بالمسألة الاستعمارية، وتحديد موقفه منها، في زمن استعماري كان يصعب على أي «أجنبي»، وخصوصاً عربياً أو مسلماً، الوصول إلى الجزائر. لكن عن طريق ضابط فرنسي التقاه على السفينة، تعرّف محمد فريد إلى فرنسي آخر في وهران، أعطاه رسالتي توصية ذهب بفضلهما إلى تلمسان والجزائر العاصمة. وينقل هذا الأخير «أن المسلمين يحذرون من مقابلة من يأتي بلادهم من إخوانهم من البلاد الأخرى، إلا إذا علموا أن الحكومة ورجالها غير ناقمين من وجود هذا المسلم الأجنبي، وبالأخص إذا كان تركياً أو مصرياً...».
ونلاحظ أيضاً في رحلة محمد فريد ذلك التشابه بل التطابق بين بعض أساليب الاحتلال الفرنسي بالأمس، والاحتلال الإسرائيلي اليوم. لنقرأ مثلاً: «ومن الغريب في بلاد الجزائر أنه لا يجوز للعربي أن يسافر خارج المركز الذي يقيم في دائرته، إلا بإذن من البوليس يبين له فيه الجهة التي يقصد الذهاب إليها، والمدة التي يمكنه التغيب فيها عن قريته أو مدينته... ولو خالف هذا النظام عوقب بعقوبة المخالفات أو الجنح على حسب الظروف والأحوال. والأغرب من جميع ذلك، بل الذي لا يمكن وقوعه من أكثر الأمم احتراماً للقوانين وتمسكاً بالعدالة، أنه يجوز لجهات الإدارة أن تسجن أي عربي مهما كانت مكانته ومنزلته بين قومه، بمجرد اشتباهها في سلوكه أو في أمانته وإخلاصه لها، حتى بمجرد الظن بأن وجوده مطلق السراح مضر بالأمن العام».
أما نقولا زيادة (1907-2006) فيروي حادثة دالة أثناء زيارته مكتب حاكم الجزائر، واجتماعه بسكريتير الأخير «ولما دخلنا مكتبه شكرته على استقبالي فقال لي: نحن لا يزورنا كل يوم أستاذ جامعي. وقد خصصت لك ساعة كاملة للحديث، فاسأل ما تشاء. سرني ذلك، وبعد أن شكرته وجّه لي سؤالاً، فيما إذا كنت قد زرت مدناً أخرى قبل العاصمة. فقلت له أنني زرت قسنطينة، فأضاف نحن احتفظنا بقسنطينة متحفاً اجتماعياً. فقلت له: كان من الممكن الاحتفاظ بها متحفاً نظيفاً... عندها نظر إلى ساعته، وتذكر أن لديه موعداً آخر. وهكذا مُسِخت الساعة إلى خمس دقائق».
وإضافة إلى أهمية الكتاب كوثيقة تاريخية عن رحلات بعضها ينشر للمرة الأولى حول الحقبة الاستعمارية، وتقديمه لبانوراما غنية بالتفاصيل عن واقع الجزائر في زمن الاحتلال الفرنسي (ولبعضها إحالات راهنة في ما يخص السلوك الاستعماري)، فإن قراءة المختارات ممتعة سواء لكونها أدب رحلة، أو لإضاءتها المسألة الجزائرية التي تقع مشكلة الاستعمار وما بعده في صلب معظم مشكلاتها الراهنة.
ويبدأ القسم الثاني من الكتاب، «جولات ومشاهدات في الجزائر المحررة»، بنص قصير ومكثف لثريا أنطونيوس، يعود الى 1962، بعنوان «جولة في الجزائر غداة الاستقلال». تنقل أنطونيوس أن «الطرقات والشوارع تحتفظ بأسمائها الفرنسية مشطوبة بالأحمر»، وتعزو فشل الاستعمار الفرنسي إلى... نساء الجزائر!
ونشير إلى شهادة لؤي عبد الملك «نهاية البراءة ــــ الجزائر أواخر السبعينات» الذي وصل الجزائر عام 1976 على طائرة جامبو ضخمة ضمن عدد كبير من المبعوثين العراقيين للتدريس... وينشر الجراح خمس رحلات راهنة، تعود الى 2005، لكتّاب زاروا الجزائر وشاركوا في «ندوة الرحالة العرب والمسلمين» التي عقدت هناك بتنظيم من مشروع «ارتياد الآفاق»، إلا أنّ الرحلات تتفاوت في أهميتها بل يكاد يطغى عليها موقف الزيارة. إذ لم يتخلص معظم كتّابها من موقف الضيف إزاء المضيف باستثناء رحلة وليد علاء الدين التي تبدو الأفضل بين الرحلات الجديدة، لتمتعها بحس نقدي ومفارقتها الديباجات الشعرية أو الطابع السياحي التي وقعت فيه أغلب كتابات زملائه من نزلاء «فندق الأوراسي».