strong>عثمان تزغارت
  • عن «الحرّيات الصغيرة» في جحيم التناقضات الكبرى


  • يلاقي فيلم «الفقاعة» نجاحاً نقدياً وشعبياً في أوروبا... مخرجه إيتان فوكس يعتبر من الجيل السينمائي الجديد في إسرائيل. من خلال قصة حب بين فلسطيني واسرائيلي، يكشف لنا عالماً مفعماً بالحقد والظلم والموت والانهيار البطيء على حواجز الاحتلال

    قصّة حب مِثلية بين شابين فلسطيني وإسرائيلي. وبعد؟ هل يكفي ذلك لتفسير النجاح الذي يحققه حالياً في الصالات الأوروبية فيلم «الفقاعة» Bubble للسينمائي الإسرائيلي إيتان فوكس؟ هذا فضلاً عن الحفاوة النقدية التي استُقبل بها، إذ نال جائزة الجمهور و«جائزة الكونفدرالية الدولية للسينما التجريبية» في مهرجان برلين الأخير...
    صحيح أن فوكس كتب سيناريو الفيلم مع رفيق دربه غال يوشوفسكي. والمعروف أنّ هذا الثنائي اشتهر بنضالاته دفاعاً عن حقوق المثليين في إسرائيل، فضلاً عن نشاطه الفني (الأول كاتباً ومخرجاً، والثاني ناشراً صحافياً ومنتجاً سينمائياً). وكان سبق أن لفتا الأنظار بشريط «ستمشي على الماء» فضحا فيه العُسف الذي يعانيه المثليون جنسياً في الدولة العبرية، ليس بفعل الأرثوذكسية اليهوديّة أو العقلية الشرقية التقليدية التي تغلب على المجتمع الإسرائيلي فحسب، بل بسبب الطبيعة التسلطية للإيديولوجيا الصهيونية التي لا تقتصر على معاداة الآخر (الفلسطيني أو غير اليهودي)، بل تنسحب على المواطن الإسرائيلي، علمانياً كان أو متديناً... إذ تحاول تلك الأيديولوجيا قولبة حياته وفقاً للنموذج التوراتي المقدّس.
    استوحى إيتان فوكس شخصيات «الفقاعة» من مسلسل كوميدي ألّفه وأخرجه للتلفزيون الإسرائيلي مدى موسمين (1999 ـ 2000)، ويتناول حياة ثلاثة أصدقاء، شابين مثليين وفتاة، يتقاسمون شقة في شينكن، حي المثليين في تل أبيب. ناعوم يعمل بائع أشرطة في محل فيديو، ويالي صاحب مقهى على الموضة في الحي. أما لولو فهي بائعة في محل لمستحضرات التجميل تحلم بأن تصبح مصممة أزياء...
    حافظ الفيلم على روح الدعابة والفكاهة اللاذعة التي ميّزت شخصيات المسلسل التلفزيوني. لكن فوكس قرّر هذه المرة أن ينقل واقع الحرب والاحتلال ورُهاب التفجيرات إلى داخل «الفقاعة» وهي التسمية الساخرة التي تُطلق في إسرائيل على مدينة تل أبيب، لكونها مدينة «غير مختلطة» تعيش منعزلة عن الهواجس الأمنية التي تواجهها بقية مدن المنطقة، سواء المدن الفلسطينية التي ترزح تحت الاحتلال والحصار، أو المدن الإسرائيلية الأخرى الغارقة في البارانويا الأمنية ورعب التفجيرات «الإرهابية».
    لكنّ فرادة Bubble ــــ وهذا ما يفسّر ما يعرفه من نجاح شعبي داخل إسرائيل وخارجها ـــــ تكمن في كونه لم يعتمد النبرة النضالية التي تطبع عادةً أعمال «السينمائيين الإسرائيليين الجدد» المعادين للاحتلال أو للصهيونية. يقوم الفيلم على بنية شيّقة قادرة على مخاطبة الجمهور العريض غير المسيّس بالضرورة. ويغلب عليه أسلوب الفكاهة السوداء، إذ يرتكز على سلسلة من المفارقات الفاقعة المستوحاة من الواقع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي.
    شخوص الفيلم ليسوا أبطالاً بالمفهوم السائد لدى دعاة السلام أو بعض اليساريين النقديين في إسرائيل. إنّهم شبان وُلدوا بالمصادفة في أتون صراع عمره أكثر من نصف قرن وهمّهم أن يحقّقون فيه ذواتهم ولو كان ذلك على هامش المجتمع. لذا يعيشون حياة فردانية مغرقة في الأنانية بنظر بعضهم، وغير مسؤولة بنظر بعضهم الآخر، ممن لا يطيقون «شذوذهم» لا بالمفهوم الجنسي فحسب، بل الثقافي والاجتماعي أيضاً. هؤلاء لا يقدّسون سوى «حرّياتهم الصغيرة» ويلقون بنظرة نقدية ساخرة على كل تابوهات مجتمعهم، بما فيها «الهولوكوست» الذي يجدونه «غير جاذب جنسياً بما فيه الكفاية لإثارة الاهتمام»، بينما يسخر منه بعضهم الآخر في مسرحية هزلية تصوّر قصة حب مثلية تجمع سراً بين معتقلين يهوديين في معسكر الإبادة في أوشفيتز بالتخفي عن أعين الحرس النازي!
    وعلى رغم احتجاج أصدقائهم اليساريين، يُستدعى بائع الأشرطة ناعوم (الممثل أوهاد كنولر الذي لفت الأنظار في دور عميل الموساد القاتل في فيلم «ميونخ» لستيفن سبيلبرغ)، لأداء شهر الخدمة العسكرية في إحدى نقاط التفتيش بين تل أبيب ونابلس. فيكتشف بشاعة الاحتلال من خلال مشهد سيدة فلسطينية حامل تداهمها أعراض الولادة خلال ساعات الانتظار على حاجز التفتيش، فتفقد مولودها.
    لكن ذلك المشهد المأساوي الذي افتُتح به الفيلم لا يلبث أن يترك المكان لكوميديا ذات طابع عبثي فاقع، تذكّر بأعمال الإيطالي روبرتو بينيني. وذلك من خلال قصة حب تنشأ عند نقطة التفتيش بين الجندي ناعوم والشاب الفلسطيني أشرف (الممثل يوسف سويد) القادم من نابلس! يلتحق أشرف بناعوم في تل أبيب، وتحتضنه الشلّة على رغم دخوله المدينة من دون تصريح عسكري، وتجد له عملاً في المقهى الذي يملكه يالي، مخفيةً عن الجميع أنّه فلسطيني!
    من خلال أشرف تكتشف شلّة الأصدقاء مأساوية الواقع الفلسطيني وبشاعة الاحتلال، ما يقودهم إلى التفكير في فعل «شيء ما» ضد هذا الاحتلال. لكنّهم لا يجدون أفضل من تنظيم حفلة techno يدعون فيها الشباب من إسرائيليي تل أبيب وفلسطينيي نابلس إلى الرقص عراة... إلا من أوراق توت فصّلتها لولو وفقاً لألوان العلمين الفلسطيني والإسرائيلي!
    لكنّ روح الفكاهة العبثية سرعان ما تتراجع، ليتّخذ الفيلم منحى تراجيدياً، إذ يفتضح أمر أشرف بسبب صديق لولو الذي يدير صحيفة فضائحية صفراء، ويسعى إلى تحقيق سبق رخيص بعنوان: تل أبيب بعيون لاجئ فلسطيني! هكذا يهرب أشرف ويعود إلى أهله في نابلس، فيجد شقيقته تستعد للزواج من متطرف من «حماس». وخلال الزفاف يكتشف أن هذا الشاب يدير عن بُعد عملية «انتحارية» في تل أبيب، فيحاول تحذير ناعوم وأصدقائه هناك. لكن الجيش الإسرائيلي يستدل بتلك المكالمة لمداهمة بيت العائلة، بحثاً عن «الإرهابي» مدبّر العملية.
    خلال اقتحام الحي، تُقتل شقيقة أشرف برصاصة طائشة ويُختتم الفيلم بمشهد مطوّل يُعدّ خلاله لتدبير عملية «انتحارية» انتقاماً للعروس الشهيدة، لكن المفاجأة أنّ «الانتحاري» منفّذ تلك العملية ليس سوى شقيقها أشرف!
    إذا تجاوزنا الطابع الميلودرامي المبالغ فيه للمشهد الختامي، حيث يتعانق أشرف وناعوم لينفجرا معاً في العملية الانتحارية، ينتهي الفيلم برسالة قوية مفادها أن دوافع الكاميكاز الفلسطينيين ليست التطرف الديني، بل مردها الألم والحقد اللذين يولّدهما الظلم العميق للاحتلال الإسرائيلي.