حمّوش أبو بكر
لماذا عليّ أن أغادر عائلتي وبلدي الذي أجده رائعاً؟ وهل تشكّل تجربتي امتداداً لتجارب النساء اللواتي سبقنني؟ ظلّت هذه الأسئلة تدور في رأس أفصار صونيا شافعي لأكثر من عشرية كاملة... إلى أن تأبطت كاميرتها وتركت جنيف إلى مسقط رأسها طهران، لتكتشف نساء بلادها. النتيجة وثائقي «عائلتي في طهران» الذي يعرض هذا المساء على arte

أصعب أنواع السينما التوثيقية وأكثرها تعقيداً تلك المكتوبة بضمير المتكلم، إذ يتداخل الشأن الشخصي بالهمّ العام، وتصبح «الأنا» عدسة مكبّرة، تنعكس على مرآتها معاناة مجتمع بأكمله. إنه تمرين دقيق ومحفوف بالمخاطر والمطبّات: كيف يمكن أن تقتبس من المعاناة الشخصية صدق التجربة المعيشة ودفئها الحميمي، من دون أن تقع في النرجسية والأفكار المسبقة الجاهزة التي تُسقط خيبات الأنا وجراحها على المجتمع بأكمله، ما من شأنه أن ينعكس سلباً في موضوعية الرؤية وصوابية التحليل وحياديته؟
أفصار صونيا شافعي، المخرجة الإيرانية المقيمة في جنيف، استطاعت أن توفّق بين عناصر هذه المعادلة الحسّاسة في شريطها التوثيقي الذي يُعرض مساء اليوم على القناة الثقافية الفرنسية ـــــ الألمانية «آرتي»، بعنوان «عائلتي في طهران» (90 دقيقة).
من خلال تجارب ثلاثة أجيال من نساء عائلتها، استطاعت هذه السينمائية أن تستعرض أوضاع النساء ومعاناتهن في إيران على مدى ثلث قرن، منذ قيام الثورة. كل ذلك من دون الحاجة إلى أي مرافعات إيديولوجية، أو الوقوع في مطب النبرة النضالية الفاقعة ـــــ ذات الطابع السياسي أو النسائي ـــــ التي كثيراً ما تؤدي بهذا النوع من التحقيقات المتعلّقة بأوضاع النساء في إيران، إلى الوقوع في فخّ النظرة الاختزالية ذات الطابع الكاريكاتوري.
سلكت صونيا شافعي منحى مغايراً تماماً، وأعلنت منذ البداية: غرضي أن أفهم لماذا وجب عليّ أن أغادر عائلتي التي أحبّ، وبلدي الذي أجده رائعاً وساحراً، وأن أحدّد من أنا اليوم؟ وما موقعي في مجتمعي الأصلي؟ هل أنا نتاج نضالاتي وخياراتي الشخصية؟ أم وليدة الثقافة والمجتمع اللذين وُلدت ونشأت فيهما؟ وإلى أي مدى تشكّل تجربتي، امتداداً لتجارب أجيال النساء اللواتي سبقنني، وفي مقدمتهن نساء عائلتي؟
هكذا تأبطت صونيا شافعي كاميراتها، وعادت محمّلة كلَّ هذه التساؤلات إلى مسقط رأسها في طهران، وإلى عائلتها التي غادرتها قبل عشرية كاملة، لتتخرّج من المعهد السويسري للسينما. قرّرت أن تروي قصة نساء بلادها بضمير المتكلم، لكن عبر «أنا» متعدّدة تتجوّل بين ثلاثة أجيال من نساء عائلتها، بدءاً بجدتها فوالدتها وصولاً إلى تجربتها الشخصية... تتوالى التجارب وتتكامل ويتوالد بعضها من بعض، بأسلوب يذكّر إلى حدّ كبير بفيلمي Ten لعباس كياروستامي و«الدائرة» لجعفر بناهي (راجع البرواز).
بذلك استطاعت صونيا شافعي أن تجعل مسارها الشخصي والعائلي يتداخل مع مسار التاريخ العام لمجتمعها ونساء بلادها، في لعبة مرايا آسرة ومؤثرة. نشوة الفرح العام بسقوط الشاه وقيام الثورة ـــــ مثلاً ـــــ تتداخل في ذاكرتها الطفولية مع أحزان والدتها التي تفقد عملها بقرار من نظام الملالي، ما يضاعف من جراحها الحميمة، ومن وطأة النظرة الذكورية المجحفة التي تطاردها حين تقرر أن تهجر زوجها السكير والعنيف...
على المنوال ذاته، ينسج الشريط أحداثه جميعاً. الفرحة التي تحس بها المخرجة ـــــ ككل الإيرانيين والإيرانيات ـــــ لحظة إعلان وقف إطلاق النار في الحرب الإيرانية ـــــ العراقية، ترتبط في ذاكرتها برديف حزين على الصعيد الشخصي. ففي اليوم ذاته يصلها نبأ وفاة والدها. وحزنها يوم أن غادرت المحكمة في طهران، بعدما بُلِّغَت رسمياً أن زوجها قام بتطليقها، سرعان ما يمحوه الفرح العام الذي اجتاحها، على غرار شباب بلادها ونسائها، إثر سماعها عبر الراديو، وهي عائدة من المحكمة، نبأ فوز الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي!
كأن قدر نساء إيران دوماً أن يتقلّبن بلا توقف بين طرفي هذه المعادلة السيزيفية، حيث الفرح العام يكتم الآلام الشخصية والجراح الحميمة... بالقدر نفسه الذي يغتال به الحزن العام لحظات الصفو والفرح النادرين على الصعيد الشخصي.
هذه الازدواجية يسلّط عليها الشريط الضوء أيضاً من خلال إبرازه للمفارقة الفاقعة بين الكآبة والتقشف الشديدين اللذين يطبعان حياة النساء ووجودهن في الفضاء العام للمجتمع الإيراني، وبين حيويتهن المذهلة وإرادة الحياة التي يتمسكن بها في الفضاء الحميمي لبيوتهن. هنا، يخلقن عالماً خاصاً بهن، مطبوعاً بروح الفكاهة التي يحاولن من خلالها أن يسترقن، بكل الوسائل المتاحة، لحظات فرح بريئة، رغم كل ما يعانينه من إجحاف وظلم وأحزان. حتى إن الغناء النسوي الإيراني، كما يكشفه هذا الشريط، شهد تطوّراً لافتاً منذ قيام الثورة. فرغم المنع الرسمي لأي نشاط فني نسائي على ساحة الحياة العمومية، تحوّل الغناء إلى وسيلة تحدٍّ وأداة فنية تنفّس بها النساء الإيرانيات عن أحزانهن وآلامهن، لكن ضمن الإطار الضيق لـ... بيوتهن! وإذا بالفضاء الشخصي يتحوّل هنا إلى فضاء من الحرية والانطلاق، بما يتناقض جذرياً مع التزمت والقمع اللذين يلقيان بظلالهما على الفضاء العام. لعلّ تلك هي حال أي مجتمع يعيش تحت وطأة نظام تسلطي، وإن كان هذا النظام نظاماً أصولياً يتّخذ من النقاء الأخلاقوي Epuration moralisatrice مثله الأعلى.
هذه المفارقة التي تتجاذب حياة النساء الإيرانيات تلخّصها بامتياز الجدة السبعينية، حين تصطحب حفيدتها (المخرجة) إلى المقبرة، لتكشف لها كيف أصبحت زيارة الموتى من وسائل التسلية المحبّبة لدى نساء بلادها، حيث يقمن بتنظيف القبور، وينثرن فوقها الورود، ويقضين الظهيرة هناك، يتناولن الغداء ويتجاذبن أطراف الحديث. وهو ما تفسّره الجدّة بقولها: «كلما أحسستُ بالحزن، آتي إلى هنا. فزيارة الأموات تمحو كآبتي، وتعيد إليّ الطمأنينة والأمل»...
قد يبدو الأمر كأنه مفارقة. لكنّ أولئك النسوة يجدن في رؤية المقابر وتذكّر الموت حافزاً يشحذهن بالأمل، ويبعث في أنفسهن مجدداً روح التحدي وإرادة الحياة. ولعلهن بذلك يقنعن أنفسهن بأن الحياة جميلة وجديرة بأن تُعاش، رغم كل شيء...

23:15 على arte





خارج الحدود


يندرج شريط صونيا شافعي التوثيقي عن النساء الإيرانيات ضمن تقليد راسخ في الثقافة السينمائية في بلادها. أبرز رموز السينما النسوية الإيرانية بدأن بأعمال توثيقية قبل أن يخضن غمار السينما الروائية. ذلك فضلاً عن أن التوجه الغالب لدى أبرز أوجه السينما الإيرانية، النسائية والرجالية على السواء، يتّخذ منحى يسعى إلى محو الفوارق والمسافات بين التخييل والتوثيق. وهي المدرسة الفنية التي أسسها «المعلّم» الكبير عباس كياروستامي، وسار على خطاها مخرجون عدة أمثال محسن مخملباف وجعفر بنهاي، وغيرهما...
من أبرز أوجه هذه السينما النسائية الإيرانية، رخشان بني اعتماد، التي أنجزت 12 شريطاً توثيقياً أبرزها «خارج الحدود» (1987)، قبل أن تتحول إلى السينما الروائية، لتقدّم 10 أفلام منها «نرجسية» (1992) و«تحت جلد المدينة» (2001). من الجيل ذاته، هناك تهمينة ميلاني التي بدأت بعمل توثيقي «أطفال الطلاق» (1989)، قبل أن تخوض بدورها تجربة السينما الروائية، لتقدّم «امرأتان» (1999)، و«النصف الخفي» (2001)، و«المرأة الزائدة عن اللزوم» (2005).
هناك أيضاً فارسة صفيدي، المغتربة في باريس، التي بدأت بشريط توثيقي عن الشتات الإيراني، تحت عنوان «العالم بيتي» (1998). ثم قدّمت أعمالاً روائية عدة، منها «رحلة مريم» (2002)، و«أحلام الرمل» (2003)، و«النظرة» (2006). ومن التجارب المميزة الأخرى، نذكر نيكي كريمي التي اشتهرت بصفتها ممثلة منذ الثمانينيات، وهي إحدى أبرز نجمات السينما في إيران. وخاضت لاحقاً تجربة الإخراج، فقدّمت عملاً توثيقياً، بعنوان «أن تملك أو لا تملك شيئاً»(2002) ، ثم أخرجت أول عمل روائي لها بعنوان «ليلة» (2006).
أما أشهر أوجه هذه السينما النسائية الإيرانية، فهما ـــــ بلا منازع ـــــ مخرجتان من آل مخملباف: مرضية مشكيني، الحاصلة على جائزة النقاد في مهرجان فينيسا لعام 2000، عن فيلمها «يوم أصبحتُ امرأة»، وهي زوجة المخرج محسن مخملباف... وابنتهما سميرة، الحاصلة على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان» لعام 2004، عن فيلمها «الخامسة عصراً»، بعدما كانت أصغر مخرجة دخلت المسابقة الرسمية في تاريخ هذا المهرجان، وهي في سن التاسعة عشرة، بفيلمها «السبورة السوداء» (1999).