strong> بشير مفتي
لعلّ أهم سمة تميز الحركة الشعرية في الجزائر، طغيان الأصوات الجديدة بغزارتها وكثافتها وهيمنتها المطلقة. ولعلّ ذلك يعود إلى عدم وجود «رواد» المعنى الذي نجده في دول المركز (المشرق العربي)... أو حتى في المغرب الأقصى كجيل عبد اللطيف اللعبي أو محمد بنيس. بالتالي، جاء غياب الأب الشعري ـــ أو جيل الطليعة ـــ ليصب في مصلحة التجربة الجديدة التي انطلقت منتصف الثمانينيات. قبل ذلك، لم يكن هناك إلا بعض الشعراء التقليديين والعموديين: مثل محمد العيد آل خليفة الذي بقي رمزاً للمحافظة الدينية، وممثلاً لجمعية العلماء المسلمين التي نشأت خلال الاستعمار وأرّخت لظهور النهضة الأدبية، استعارة على النهضة الأدبية في مصر وممثلها الشعري الإحيائي محمود سامي البارودي. وأيضاً مثل مفدي زكريا شاعر الثورة الذي ارتبط اسمه خصوصاً بالنشيد الوطني المعروف «قسماً بالنازلات الماحقات...»، وبـ«إلياذة الجزائر».
أما جيل «الواقعية الاشتراكية»، وعلى رغم الإمكانات التي وفرتها الدولة له من مجلات ومؤسسات أيام سيطرة الحزب الواحد، فلم يفرض نفسه على الإطلاق. حسم النص الشعري الجديد معركته من البداية، لأنّها لم تقع في الحقيقة، فلم يجد مَن يصطدم به ولا مَن يتعارك معه. ولهذا راهن على تجربته الخاصة ورؤيته المختلفة. ولم يكن سهلاً بالنسبة إلى الشعراء الجدد، تجاوز سلطة السبعينيين المتحكمين بالمنابر ووسائل النشر، في فترة الحزب الواحد.
مع بداية الاهتزاز السياسي عام 1988 والتحولات السياسية التي شهدتها البلاد من انفراج في حرية التعبير وظهور التعددية الإعلامية، استطاع الجيل الجديد فرض نفسه في الصحافة المستقلة ونشر أعماله في الملاحق فقط. ومن خلال هذه الفورة الإعلامية الاستثنائية، تجاوباً مع نبض الحركة الجديدة التي بدأت تعلن عن نفسها عبر بيانات شعرية مسايرة لموجة البيانات الشعرية العربية المعروفة، بدأ الصوت الشعري حركته الناسفة ليصبح هو الصوت الوحيد الذي يحضر في كل المهرجانات والملتقيات الأدبية.
كان ذلك الحضور يعوّض عن غياب المجموعات الشعرية، هذا العبء الذي عانى منه جيل يكتب من دون كتب. لذا بقيت المؤسسات تتشكّّك في وجود أصوات جديدة، وتعتبرها ظواهر إعلامية أكثر منها مشاريع وتجارب شعرية حقيقية، وخصوصاً أنّ أهم شاعر كان يعبر عن هذه الحساسية انتحر قبل أن يرى أي عمل شعري له، وهو عبد الله بوخالفة، ولحقه بعد سنوات قليلة شاعر آخر كان من التجارب المميزة وهو فاروق أسميرة الذي انتحر أيضاً. وحتى الآن، لم تنشر أعمالهما المميزة تلك إلا في الصحف وبعض المجلات التي كانت تتوقف بعد عدد أو عددين.
مع بدابة التسعينيات، ظهرت مجلة «القصيدة» التي أصدرتها جمعية الجاحظية للطاهر وطار وأشرف عليها الشاعر عمار مرياش. والأخير صاحب مجموعة شعرية واحدة هي «اكتشاف العادي»، ستصدر لاحقاً في إطار جمعية شبابية اسمها «جماعة المعنى» والتي لن تستمر إلا عامين. وكان يعوّل على هذه المجلة لتشكّل مختبراً للتجربة الجديدة، إلا أنّ مسؤولها الطاهر وطار راهن على رؤية جماعية تجمع كل الحساسيات بما فيها التقليدية وحتى الرديئة منها، وسينتهي الأمر بخروج الشاعر من المجلة وبقائها صامدة، إلا أنّه غابت عنها تلك الرهانات الكبرى والأساسية.
وفي فترة العنف التي حصدت الآلاف في الجزائر، قتل الكثير من الشعراء المميزين مثل بختي بن عودة الذي كان يلقب بـ«الأخ الأكبر» رفضاً منه لأي أبوية محتملة، والشاعر عبد الله شاكري الذي كان يعمل في سلك الأمن، وشعراء يكتبون بالفرنسية كانت لهم علاقات حسنة مع شعراء العربية مثل الطاهر جعوط ويوسف سبتي. هكذا، منيت حركة الجيل الجديد بنكسة، ووجدت نفسها في الساحة الثقافية معزولة وصامتة تقريباً.
حتى نهاية التسعينيات، بدأت بعض البوادر الجديدة تظهر من خلال الحركة الجمعوية ونشأت جمعية الاختلاف عام 1997 التي كان رهانها الأول نشر أعمال الكثير من هؤلاء المبدعين الجدد. وقد حظي الشعر بقسط أكبر في البداية ضمن سلسلة سميت «نصوص الهامش»، ونشرت الجمعية ما يقارب 15عنواناً شعرياً لتجارب من مختلف ولايات الجزائر بتنوعها وتعدد أصواتها وجمالياتها الخاصة بينها «غجرية» لنصيرة محمدي، «كائنات الورق» لنجيب أنزار، «كتاب الشفاعة» لعبد الله الهامل، «امرأة للرياح كلها» لميلود حكيم، «شرق الجسد» لميلود خيزار، «الرائي» لسيف الملوك سكتة، «إحداثيات الصمت» للأخضر بركة، «رجل من غبار» لعاشور فني..
كما لعبت الجائزة التي أسّستها الجاحظية باسم مفدي زكريا، دوراً في تفعيل الحركة الشعرية الجديدً. هكذا استقر حال الشعر في الجزائر لمصلحة الشعر الجديد والحداثي على رغم عودة الشعر العمودي في السنوات الأخيرة. ولا شك في أنّ غياب الاسم الكبير أو ما يعرف بالأب الشعري كان سبباً أساسياً في هذا الحضور الطاغي لقصيدة الحداثة، على عكس ما هو عليه الأمر في مجال الرواية الجزائرية حيث التطاحن بلغ مداه الكامل.