على عكس «راضي»، تبدو «ليلى» مرحةً، جريئةً، مبادرةً ومنفتحةً على الآخر، بل قادرة على إصلاح ميكانيك الفان، بفضل ورشة والدها في اليرموك. هي تحنّ إلى أيام المخيّم الحلوة، الذي يبدو أنّ الحرب لم تنل منه بعد. على ذلك، «ليلى» خارج ذاكرة الحروب المتخمة لدى رفيقيها على الطريق (باستثناء كونها فلسطينية الأصل من صفد). «راضي» ما زالت لعنة 1967 تنهشه، في حين يتضاعف الرقم إلى ثلاث حروب في سجل «سامي» اللبناني: الحرب الأهليّة، واجتياح بيروت 1982، وحرب تمّوز (يوليو) 2006. «سامي» ليس أفضل حالاً من «راضي». لم يصنع أفلاماً جادّة كما الطموح الأوّل، بتحقيق رغبة أخ استشهد خلال مقاومة الاحتلال، فلم يتمكّن من دراسة السينما التي يعشق. هكذا، اكتفى بما يجلب المال على حساب التحقق والحلم. الشرطي هو العامل الأمني الذي يفرض ما يشاء بدماثة ظاهرة وابتسامة على الوجه.
حضور للحرب الأهلية اللبنانية والنكسة وفلسطيننعم، أهل هذه المنطقة لا يعرفون الاستقرار كثيراً. لم تتركهم الحروب المتتاليّة وقهر القمع والاستبداد وشأنهم. الهويّة الشائكة الباحثة عن الخلاص، والناتجة عن مزيج من البلدان والجذور والألوان. الاعتزاز بفلسطين وحلم التحرير والعودة حاضر أيضاً. قراءة مبطّنة داخل حكاية بسيطة، تنطلق من الذاتي إلى الجمعي، ومن الخاص إلى العام.
ذاتية رفقي عساف هي الأساس الذي قام عليه «المنعطف». «راضي» أناه الداخليّة، بما يمثّل من تأمّل وحذر وعزلة، وتعلّق بالأب الغائب، وسؤال عن الهويّة الملتبسة والقضيّة الكبرى (كما كان أنطوان دوانيل أنا تروفو الأخرى، وإن بشكل مختلف). عساف، كما بطله، أردني تعود جذوره إلى «جنين»، التي سمع الكثير عن جمال قراها. رحيل والده عدنان عساف، أكبر داعم ومساند، شكّل صدمةً يصعب تجاوزها، وإن كان رفقي قد فعلها منطلقاً نحو الإبداع والعمل. تيمة كتبها الرجل في الروائي القصير «صباح بارد في نوفمبر» (2014) لروبرت عبود، وأطلق عقالها بوحاً في الوثائقي القصير «عيش الأحلام» للمخرج نفسه. «ليلى» هي فتاة أحلامه المنشودة، بما تملك من حلاوة روح ووجه. فلسطين القضيّة والصراع الذي لا يمكن أن يغيب. نذكر هنا الروائي القصير اللافت «المشهد» (2008)، الذي حققه رفقي عساف مع حازم البيطار، ونال عنه عدداً من الجوائز الدولية، منها أفضل روائي قصير في «مهرجان أبو ظبي السينمائي» 2008. هنا، لا يمكن إغفال فضل «تعاونية عمان للأفلام» على عساف وعدد من الشباب الأردني المتحمّس للسينما المستقلة في بداياتهم.
في بنية السرد، لجأ صاحب الشريطين القصيرين «الترقيعة الأخيرة» (2005) و«عمّان بالأحمر» (2006) إلى مزج مستويات زمنية عدة. «فلاش باك» مقتضب يعود إلى طفولة «راضي» مع والده، و«فلاش فوروارد» إلى ما بعد الحادث المروري السابق للراوي. الرحلة نفسها يطعّمها مستوى سريالي كأشخاص وعناصر من وجهة نظر الثلاثة. لا بأس من فضح أنّ لا شيء كما يبدو في البداية. إنّها رحلة ذهنيّة داخليّة يطلقها اجتماع الثلاثة في ظرف معيّن. الإيقاع البارد خيار مناسب، إلا أنّه بطيء قابل للشد في بعض المفاصل. البقاء داخل الفان الضيق لكل هذا الوقت ليس سهلاً، لكنّ عساف يحسن التقطيع الرشيق، والانتقال بين اللقطات القريبة والعامة (توليف دعاء فاضل). الموسيقى (سعاد بوشناق) مقتضبة كما الحوار، تتدخّل كموتيف في الوقت المناسب. الممثّلون يقدّمون أداءً لافتاً مضبوطاً، خصوصاً أشرف برهوم وفاتنة ليلى وأشرف طلفاح.
ما يمكن التوقف عنده بعض الشيء هو «ليلى» التي تبدو متآلفةً مع ما تعرّضت له، كأنّها تمرّ به كل يوم، بل إنّها هي من يعرض على «سامي» إيصاله معهما، وليس سائق الفان وصاحبه. صحيح أنّها رحلة ذهنيّة بحت، لكنّ هذا لا يبرّر كل الربع الأول من الشريط. «المنعطف» نكهة مختلفة في السينما الأردنية الجديدة الآخذة بالنمو. يعد بمخرج يُنتظَر منه الكثير في السنوات المقبلة، على ألا يطول الانتظار كما في الفيلم الأول.